قائمة المقاييس

فهرس المحتويات








    get this widget

    الخميس، 10 سبتمبر 2020

    الإلتزام في الأدب - جون بول سارتر

     

     










                  الالتزام في الأدب

     

    الالتزام في الأدب:

        هو مدى التزام الأعمال الأدبية بالمعايير الاجتماعية والأخلاقية والجمالية. ومن المعروف أن الوظيفة الاجتماعية والأخلاقية والجمالية للأدب قديمة قدم الأدب نفسه، وأن ثمة ميلاً إنسانياً قديماً ومقيماً للاهتمام بوظيفة الأدب وتوجيهه لمصلحة الفرد والمجتمع والوطن والإنسانية والمعتقد.

         ولكنَّ هناك فرقاً بين الإيمان النظري العام بوظيفة الأدب، وهو ما اصطلح على تسميته بالنظرية الأخلاقية، ومفهوم الالتزام الحديث الذي ينبثق من النظرية الأخلاقية ذاتها ولكنه يتجاوزها متجهاً نحو العمل على تنظيم وظيفة الأدب وتعميق الوعي بها، وتحديد مسؤولية الأديب، وأحياناً إلزامه بهذه المسؤولية، انطلاقاً من موقف إيديولوجي محدد متسم بالوعي النظري.

                  يقول الناقد الفرنسي (ماكس أوبريث): " ظهر مصطلحُ (أدب الالتزام)، أو (أدب المواقف) نتيجةً لتأثير (الأَيْدِيُولُوجِيَّات) الحديثة في الأدب، التي تَظهَرُ – بالرُّغم من تعدُّدِها وتبايُنِها – في شيءٍ واحد، وهو أنها تُبرِز المتغيِّراتِ الاجتماعيةَ السياسية لعصرنا. ومن أجل ذلك؛ فإنَّ هذه (الأَيْدِيُولُوجِيَّاتِ) تُجْبِرُ كلَّ امرئٍ منَّا أن يُعِيد فحصَ موقِفِهِ نقديّاً من العالم، ومسؤوليَّتِهِ نحو الآخَرِين"

    مفهوم الالتزام:

        الالتزام، هو مشاركة الشاعر أو الأديب الناس همومهم الاجتماعية والسياسية ومواقفهم الوطنية، والوقوف بحزم لمواجهة ما يتطلّبه ذلك، إلى حدّ إنكار الذات في سبيل ما التزم به الشاعر أو الأديب :"ويقوم الإلتزام في الدرجة الأولى على الموقف الذي يتّخذه المفكّر أو الأديب أو الفنان فيها .وهذا الموقف يقتضي صراحة ووضوحا وإخلاصا وصدقا واستعدادا من المفكّر لأن يحافظ على التزامه دائما ويتحمّل كامل التبعة التي يترتّب على هذا الالتزام.

        والالتزام هو الشكل الواعي المنظم (المؤدلج) للنظرية الأخلاقية، وهو ـ بهذا المعنى ـ ممارسة حديثة العهد لا تعود بداياتها الأولى إلى أكثر من قرن واحد من الزمن، وإن كانت في التاريخ الأدبي القديم أشكال من الالتزام غير المبنيّ على الاتساق الفكري والاستمرارية المنظمة كالتزام الأدب الموقف الديني في العصور الوسطى عند الأوربيين، وربما كذلك عند العرب، ولاسيما في مجالي الشعر الديني والشعر السياسي (الأحزاب).

    أمّا سارتر فقد عرّف الأدب الملتزم فقال :

     " مما لا ريب فيه أنّ الأثر المكتوب واقعة اجتماعيّة، ولا بدّ أن يكون الكاتب مقتنعا به عميق اقتناع، حتى قبل أن يتناول القلم. إنّ عليه بالفعل، أن يشعر بمدى مسؤوليته، وهو مسؤول عن كلّ شيء، عن الحروب الخاسرة أو الرابحة، عن التمرّد والقمع. إنّه متواطئ مع المضطهدين إذا لم يكن الحليف الطبيعي للمضطّهدين"

         ويشير سارتر إلى الدّور الكبير الذي يلعبه الأدب في مصير المجتمعات، فالأدب مسؤول عن الحرية، وعن الاستعمار، وعن التطوّر، وكذلك عن التخلّف. فالأديب ابن بيئته، والناطق باسمها، وكلمته سلاحه، فعليه تحديد الهدف جيداً، وتصويبها عليه بدقّة، "فالكاتب بماهيته وسيط والتزامه هو التوسّط".

    ويرى رئيف خوري أنّ الكاتب مطالب بمسؤوليّة مجرّد أن يكتب وينشر لمجتمعه، فهو يجب أن يعبّر عن آلامها وآمالها ونضالها، ويقول:

    "  ليس كفعل القلم اجتماعي وتاريخي بكل ما تنطوي عليه كلمة اجتماعي من شؤون الأمّة، والشعب ، والقوم ، والوطن ، والانسانيّة ...وعلى القلم المسؤول أن ينفي عنه أوّل شيء اعتبار عامل الكسب . فذلك هو الشرط المبدئي لصحّة الرأي ونزاهته "

    تطور مفهوم الالتزام :

        وإذا كان مفهوم الالتزام يرجع إلى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كما يُستخلص من تنظيرات ثورة أكتوبر الاشتراكية وما سبقها من إرهاصات في روسيا، فإن استخدام كلمة الالتزام بالمعنى الاصطلاحي الحديث يرجع إلى أوائل أربعينات القرن العشرين، إذ كان المفكر الوجودي الفرنسي جان بول سارتر أول من بلور مصطلح الالتزام للدلالة على مسؤولية الأديب، ولتوكيد أن الكلام الأدبي ليس مجرد ترويح عن النفس أو تعبير جمالي، وإنما هو موقف يستتبع المسؤولية.

        ولكن ذيوع مصطلح الالتزام على يد سارتر يجب ألا ينسينا أبداً أن مفهوم الالتزام المنظم يعود إلى أدبيات المذهب الواقعي الاشتراكي الذي يقوم أصلاً على تأكيد ارتباط النتاج الأدبي بالبنية التحتية (الاقتصادية ـ الاجتماعية)، ومن ثم على تأكيد رسالة الأدب والفن للعمل في سبيل التغيير من أجل الحياة الكريمة والغد الأفضل.

         وقد اتخذ هذا المفهوم منذ البدء صيغة مذهب أدبي متماسك حمل اسم "الواقعية الاشتراكية". وهو حصيلة النظرة الماركسية إلى الأدب والفن من الناحية النظرية. كما أنه، من الناحية العملية، حصيلة التجربة الأدبية المعاصرة للأدباء الاشتراكيين في الاتحاد السوڤييتي (سابقاً) والبلدان الاشتراكية الأخرى وأقطار كثيرة في العالم. ومفاد هذه النظرة أن الأدب ابن طبقته وعصره، وهو تعبير عن التطورات الاقتصادية والاجتماعية في العصر، وفي خضم معركة صراع الطبقات لا يستطيع الأديب أن يقف موقف المتفرج أو أن ينقطع للتأمل المجرد في برجه العاجي، وإنما هو مطالب بالتجاوب مع نضال الطبقة الكادحة (البروليتارية) وأهدافها، وعليه أن يقف إلى جانب الحياة ويلتزم مناصرة قوى التقدم والتحرر والثورة، وهكذا يكون الموقف المشترك بين كتاب الواقعية الاشتراكية هو التزام أهداف الطبقة العاملة والنضال في سبيل تحقيق الاشتراكية والعالم الأفضل.

         على أن النصوص الأولى للواقعية الاشتراكية لا تستخدم كلمة الالتزام استخداماً اصطلاحياً، بل تركز عادة على كلمة هادف» ومن هنا كانت أكثر الصفات تكرراً في السلسلة الطويلة لتحديدات الأدب الاشتراكي هي كلمة هادف. ويلاحظ تكرار هذا الوصف لدى واحد من أقدم منظري الالتزام الأدبي الاشتراكي، وهو أناتولي لوناتشارسكي، ففي مقالته المبكرة «حول الواقعية الاشتراكية» (1932)، يؤكد أن الواقعية الاشتراكية تختلف عن الواقعية البرجوازية في أنها فعالة بذاتها ومدركة لجدلية الطبيعة والمجتمع، وكذلك ـ وهذا هو المهم ـ في أنها هادفة، يقول:

         «ثم إنها هادفة. إنها تعرف ما هو خير وما هو شر، وتلاحظ أي قوى تعيق الحركة وأي قوى تسهل سعيها المتوتر نحو الهدف الأعظم. وهذا كفيل بإضاءة كل صورة فنية بطريقة جديدة سواء من الداخل أم من الخارج. وهكذا يكون للواقعية الاشتراكية موضوعاتها لأنها تعطي الأهمية بدقة لكل ما له قدر من التأثير في العملية الأساسية لحياتنا، أي النضال من أجل تحويل كامل للحياة وفق الخطوط الاشتراكية.»

          وقد قطع المذهب الواقعي الاشتراكي في الممارسة والنظرية شوطاً كبيراً وأصبح اليوم يستند إلى تجربة تاريخية طويلة، ومع هذا التطور يبرز سؤال نظري شديد الأهمية حول مدى ورود معطيات هذا المذهب فيما يتصل بالثورات التحررية وأقطار العالم الثالث والمجتمعات الناشئة التي ابتعدت، لظروف تاريخية اجتماعية سياسية ولتداخل العوامل التي تكوّن اليوم أدبها وثقافتها الوطنية، عن مفهوم مجتمع الطبقة الواحدة وما يترتب على ذلك من بنى أدبية وفنية، وانتهجت منهجاً وطنياً لا رأسمالياً في التنظيم الاقتصادي والاجتماعي، وكذلك انتهجت نهجاً ثقافياً مبنياً على الانفتاح والتفاعل سواء مع الموروث الثقافي والأدبي أم مع النتاج العالمي الجديد من العالم الاشتراكي بالدرجة الأولى ولكن من مناطق أخرى في العالم أيضاً.

    العصر الحديث :

        وإلى جانب الواقعية الاشتراكية، برزت الوجودية في العصر الحديث تنادي بالالتزام وتروّج له. وهي تختلف اختلافاً بيناً عن سابقتها الواقعية الاشتراكية في أنها تنأى عن أي منحى أيديولوجي وتجعل الالتزام نابعاً من وجدان الكاتب الفرد وقناعاته من دون أن يكون هناك معيار واضح لهذا الالتزام. ومن الصعب الكلام عن الوجوديين بالجملة لأن كل علم من أعلامهم له تجربته الخاصة، ومن بينهم جميعاً يبرز جان بول سارتر أقوى مدافع عن نظرية الالتزام، وللأدب عنده خاصيتان أساسيتان مترابطتان: الالتزام واتخاذ المواقف. وهو يعفي الشاعر من الالتزام لأن الكلمة الشعرية لا تفيد معناها الدقيق ومن ثم لا تتضمن موقفاً. وعنده أن حرية الكاتب ضرورية ومنها ينبع الالتزام، والالتزام لا يعني سطحية العمل الأدبي ووقوفه عند النصائح المباشرة أو المواعظ، بل يعني حيوية العمل الأدبي في ارتباطه بالعصر وملابساته وتوجيه الوعي فيه وجهة إنسانية مسؤولة وغير مشروطة.

         ومن الواضح أن هذه الملاحظات تتناول بنقد غير مباشر ذلك الميل الذي ظهر في كثير من الكتابات الواقعية الاشتراكية نحو البساطة المتناهية والمباشرة والتقريرية والمنبرية والبعد عن التساؤل، ولاسيما في أوضاع سياسية معينة في الاتحاد السوڤييتي السابق كالمرحلة الستالينية سياسياً والجدانوفية ثقافياً.

        إن نظرية الالتزام عند سارتر لم تنبثق جاهزة، وإنما تبلورت بالتدريج عبر تجاربه الحياتية والكتابية، وقد قادته هذه التجارب ابتداء من «طرق الحرية» عام 1945، إلى مزيد من ارتباط وجهة نظر الضمير الفردي بالواقع الاجتماعي، وفي سنة 1946 عمل سارتر على تحديد مسؤولية الأديب بما يلي:

    ·    إنتاج نظرة إيجابية في الحرية والتحرير.

    ·   أن يتجه الكاتب في كل حالة من الحالات إلى استنكار العنف من وجهة نظر أفراد الطبقات المضطهدة.

    ·   تحديد علاقة صحيحة بين الغايات والوسائل، أي العلاقة بين الأخلاق والسياسة.

    ·   أن يرفض الكاتب فوراً استعمال أي وسيلة من وسائل العنف في تحقيق نظام من الأنظمة أو المحافظة عليه.

        ويضيف سارتر: «إن المناداة بالحرية دون أن يكون ذلك في سبيل التغيير، المناداة بالحرية لمجرد أن تتمتع لحظة بذاتها إزاء أثر جميل، ذلك ما يقال عنه: الفن للفن. هذه الطريقة في المناداة بالحرية المبدعة ضد النفع، ضد تقدم الآلات، ضد الطبقة، إنما هي طريقة في أن يكون المرء ضد البرجوازية ومرتبطاً بالبرجوازية في آن واحد».

          وقد فضل الوجوديون باستمرار القصة والمسرحية لطرح المشكلات الإنسانية والميتافيزيقية، ومعظمهم تجنبوا البحث النظري الفلسفي المباشر. والجدير بالذكر أن موجة الالتزام الوجودية طغت على الأدب العربي في الخمسينات وأوائل الستينات من القرن العشرين، وحاول كثير من الكتاب العرب صياغة إنتاجهم القصصي على النمط الوجودي، وترجمت معظم المؤلفات الوجودية، ونشرت في الصحافة الأدبية العربية عشرات المقالات حول الوجودية وفكرها وأدبها، وكان للأدب العربي في سورية نصيب من محاولة الاستفادة من التجربة الوجودية، وتمثل ذلك بوجه خاص في الإقدام على المزاوجة القومية الوجودية أي في إضفاء الالتزام الوجودي على الالتزام القومي، وإنطاق الأبطال القوميين في الأدب القصصي بالمقولات الوجودية وذلك في محاولة للتأكيد أن الالتزام القومي يجب أن يكون نابعاً من صميم القناعة الخاصة للفرد الواعي.

           وأخيراً لا بد من الإشارة إلى أن الالتزام الأدبي بمفهومه الواسع تلقى رفداً عظيماً من نتاج الأدباء المناضلين ضد الظلم والاحتلال والاستبداد في أنحاء مختلفة من العالم، ومن أدباء ثورات التحرر الوطني والاجتماعي، وفي مقدمة هؤلاء: لوي أراگون، وبابلو نيرودا، وناظم حكمت، وفريدريكو گارثيا لوركا.

           كما أن الأدب العربي المعاصر رفد مفهوم الالتزام «الطوعي» بدفاق من تجارب الأدب القومي والوطني والاجتماعي، وأدب المناسبات العامة، مع ما يشوب هذا الأدب من عاطفية مسرفة وتعلق آني بالمناسبة، ويمكن القول إن أفضل مثل قُدم في هذا الباب هو أدب المقاومة الفلسطينية الذي نجح جزء كبير منه، في توفير الموقف الملتزم ذاتياً، والإبداع الجمالي ولو نسبياً، والأفق الإنساني الرحب.

     

    توسع أكثر مع :

    لوناتشارسكي، «حول الواقعية الاشتراكية"، ترجمة حسام الخطيب، الآداب الأجنبية، ع1، س6 (تموز 1979).

    جان بول سارتر، الأدب الملتزم، ترجمة جورج طرابيشي (دار الآداب، بيروت 1965).

    حسام الخطيب، سبل المؤثرات الأجنبية وأشكالها في القصة السورية، ط3 (دمشق 1981).

     








    المشاركات المميزة

    مشاركات