المحافظة
والتجديد في الشعر المغاربي الحديث
المحافظة
والتجديد في الشعر الجزائري :
الاتجاه
المحافظ في الشعر الجزائري :
البداية المنظمة للمدرسة المحافظة كانت مع ظهور
حركة الإصلاح التي حملت على عاتقها إحياء التراث الشعري القديم محاكية بذلك حركتي
الإحياء والتقليد في المشرق العربي فقام بذلك اتجاه تقليدي جزائري على مرجعية
عربية مشرقية قريبة وأخرى قديمة ، كما
تميزت بحضورها وسيطرتها على الحياة الأدبية في الجزائر ، وذلك بسبب الطابع السلفي
بحكم ثقافة الجماعة الإصلاحية في الجزائر
ممثلة في جمعية العلماء .
وكان
للشعر نصيبه الأوفر في هذه النهضة التي اتخذت من التقليد والمحافظة شعارا لمشروعها
الشعري لهذا قدمت نصها بطابعها التقليدي
على مختلف مستوياته اللغوية و الإيقاعية والموضوعية ، ومن خصائص الاتجاه الإصلاحي :
مستوى اللغة
الشعرية
: توظيف اللغة الشعرية التقليدية بنمطها المشرقي وقاموسها التراثي القديم ، يقول
محمد العيد :
سر مع التوفيق
فهو الدليل حصحص الحق وبان السبيل
عاطني السراء كأسا بكأس واسقنـيها إنها سلســبيل
مستوى التركيب :
لم يخرج عن التقليد من الناحيتين النحوية والبلاغية فقد عمل الشاعر الإصلاحي على بعث التراكيب في حلتها القديمة ومن نماذج ذلك قول الهادي السنوسي :
خبرت البلاد
وأضرارها فأقبلت تندب أحرارها
وأرسلتها نظرة حرة رعى الله في الحر أفكارها
ومن ناحية التصوير البلاغي فلم يخرج النص
المحافظ على طبيعة الصور القديمة من تشبيه
وكناية وشاهد ذلك قول محمد العيد :
ياليل ما فيك نجم جلى الدجى وأزاحا
إلا كواكب حيرى لم تتضح لي اتضاحا
مستوى الإيقاع :
لم تختلف القصيدة المحافظة إيقاعيا عن مثيلتها المشرقية الإحيائية حيث اقتفت
المرجعية التراثية القديمة التي تعتبر بنية البيت الشعري المكتملة هي أساس بناء
القصيدة واستحضار البحور الخليلية بأوزانه وأضربه المختلفة :
العلم سلطان
الوجود فسد به من شئت أو ذد عن حياضك وادفع
لم تختلف القصيدة الإصلاحية عن أختها
الإحيائية من حيث الأغراض والموضوعات من مديح ورثاء ووصف وغيرها ومثال على ذلك قول
محمد العيد في رثاء عبد العزيز آل سعود :
لك الويل من نعي به هتف البرق فريع له الإسلام واضطرب الشرق
الاتجاه الوجداني في الشعر الجزائري :
شهدت
الحركة الشعرية بروز اتجاه آخر على الساحة الشعرية الجزائرية ترسخ بشكل واضح بعد
الحرب العالمية الثانية عرف بالاتجاه الوجداني تأثر بشكل كبير بالرومانسية العربية
المشرقية ، وقد جنح إلى الخيال والذاتية والتجديد على مستوى الموسيقى و اللغة ،
وقد كانت هناك دوافع مختلفة عجلت بظهور هذا التوجه :
1.
دوافع سياسية
واجتماعية واقتصادية :
وقد صاحبت هذه الحركة مشاعر
اليأس والتشاؤم والنظرة القاتمة التي تنامت مع الحروب والاستعمار وتراجع الروح
الإنسانية مع المطامع الدولية الكبرى قبيل الحرب العالمية الأولى ومن جهة ثانية تصاعد الطبقات الوسطى البورجوازية
في بعض الدول العربية وأخذ مكانها في المجتمع . وقد دلت بعض القصائد على هذه
الأحاسيس من خلال عناوينها " زفرات العشي " " دمعة كئيب "
وغيرها .
2.
التأثر
بالمدارس الرومانسية : فقد تأثر الشعراء باتجاهات
الرومانسية المشرقية وخاصة مع أبللو والمدرسة المهجرية وجبران خاصة ،
أما التأثر الثاني فقد تعلق بالرومانسية الغربية وخاصة في وجهها الفرنسي
بحكم الثقافة الفرنسية التي كانت مسيطرة على الوسط الاجتماعي الجزائري ولكن هذا
التأثر لم يتعد قلة من الشعراء منهم رمضان حمود ، مبارك جلواح ، عبد الله شريط ...
3.
دوافع مفاهيمية
: إن الأسئلة التي طرحها النقد إزاء
الشعر حول حدوده ومفاهيمه وماهيته هي التي
عجلت بتغير الرؤية وقلبت الموازين حيث أصبح ثورة على القيود ودعوة إلى الانطلاق إنه
التعبير الجميل المعبر عن الذات فجوهر الشعر هو التعبير عن المعاناة
الإنسانية فالقصيدة هي تجربة إنسانية
مستقلة في حد ذاتها ، وبذلك تغيرت الحدود الموسيقية واللغوية والبلاغية في الشعر
الجديد .
خصائص الاتجاه الوجداني :
1.
اللغة الشعرية
: قام النص الوجداني على استخدام اللغة
والتراكيب البسيطة فالرومانسية لا تعترف بلغة فخمة وأخرى أقل شأنا بل الشعر يروض
اللغة ويخضعها للعاطفة فلم يفرق الشاعر الرومانسي بين لغة الشعر ولغة النثر ،
فاللغة التي يتكلم بها الشاعر هي لغة النظم ذاتها يقول السائحي :
غيرتني الخطوب والألام فعلى عهدي القديم السلام
وقد لحق التركيب باللغة فخلت من التعقيد
والتعالي خدمة للعواطف رغبة في إيصال الأحزان والألام التي يعانيها الشاعراء إلى
متلقيهم بعيدا عن أي تكلف ، كما وظفت طرقا جديدة لتمثيل المعنى كتراسل الحواس
وتآلف المدركات ومثال ذلك الطاهر بشوشي :
قطعت الدجى أسفا وفي مهجتي هاتف
وفي كبدي كعبة بها خلدي طائف
2.
التشكيل
الموسيقي
: دعت الرومانسية مبدئيا للتخلص من كل
القيود وخاصة على المستوى الأوزان حيث جدد شعراء الاتجاه الوجداني نسبيا في
التشكيل الموسيقي فقاموا بتنويعات موسيقية في القصيدة الواحدة كما كتبوا على منوال
الموشحات ، وقد فعل رمضان حمود حين غير غير في القوافي والوزن :
أنت
يا قلبي فريد في الألم والأحزان ونصيبك
من الدنيا الخيبة والحرمان
وأنت
يا قلبي تشكو هموما كبارا وغير كبار
ارفع
صوتك للسماء مرة بعد مرة.
3.
مستوى
الموضوعات
: عبر الرومانسيون على مختلف الموضوعات التي تغوص في الذات فلم يعد الشعر يعترف
بالحدود ووجود الشريف وغير الشريف من الموضوعات بل صار كل موضوع يتعلق بالإنسان
ونوازعه و آلامه وأحلامه هو موضوع شعر .
المحافظة والتجديد في الشعر المغربي :
الاتجاه المحافظ في الشعر المغربي :
إن مفهوم الشعر، في فترة الربع الأخير من القرن
التاسع عشر، لم يكن يرتبط بأي عنصر من عناصر الفن. ذلك أن الشعر لم يكن له موضوعه
المستقل، بل كان موضوعه مرتبطا بموضوعات العلم والمعارف الأخرى. وبمعنى آخر فإن
الشعر كان مجرد أداة للعلوم الفقهية واللغوية، ووسيلة لحفظ الشواهد في معرض علم
النحو، وعلم البلاغة ورواية المثل السائر.
إن مثل هذا المعنى الذي ينقص من قيمة
الأدب، كان شائعا في الكتب السائدة في هذا العصر، وقد انتقل بكامل ثقله إلى الفترة
اللاحقة التي تمتد من بداية القرن العشرين إلى حدود العشرينيات منه، غير أن الحركة
السلفية في الأدب والشعر استطاعت أن تحدث هزة وخلخلة في مفهوم الشعر، ولكن هذه
الهزة أو الخلخلة كانت لصالح الحركة نفسها وليس للفن الشعري. ففي هذه المرحلة التاريخية لم يعد الشعر مجرد
ثقافة مكملة لشخصية العالم، بل أصبح ذا موضوع مستقل نسبيا، هو موضوع الفكر السلفي.
فالتغير الذي طرأ على مفهوم الشعر، لم يمس عناصر الفن، وإنما مس فقط مجال موضوعه,
ولذلك كان لابد من انتظار فترة الثلاثينيات التي سيبدأ فيها الصراع بحدة، بين
أنصار التجديد وأنصار التقليد.
في هذه الفترة المتقدمة، ظهر مفهوم جديد
للشعر، أخذ يقترب من عناصر الفن شيئا فشيئا، وكان للشعراء الشباب دور كبير وحاسم
في ظهور هذا المفهوم الجديد، يقول الأستاذ علال الفاسي في الشعر:
قــد مثلته يد الأولهة
كتلة جمعت
مــن الآلام والأحـزان
وكسته من أيدي الطبيعة
حـلة نســجت من الإقلال والحرمان
الأسباب الموضوعية لتطور مفهوم الشعر:
1-
التطور الذي
حدث للبنية الاجتماعية والثقافية والفكرية. فقد عملت الحركة الوطنية على بث الوعي
في نفوس الناس، وشجعت على إنشاء المدارس والمعاهد العلمية.
2-
التواصل بين
المغرب والمشرق الذي كان قويا في هذه الفترة، عن طريق البعثات العلمية والكتب
والمجلات والصحف التي كانت تصل إلى المغرب بانتظام.
3- ظهور حركة نقدية، عملت على نشر بعض المفاهيم في
إطار اتجاهات متنوعة. يهتم بعضها بالأدب العربي القديم، والبعض آخر يهتم بالأدب
العربي الحديث.
الاتجاه
الوجداني في الشعر المغربي:
اكتسب الشعراء المغاربة، منذ السنوات الأولى
من الأربعين مفاهيم جديدة حول الشعر، تجاوزوا فيه الشعراء في الفترات السابقة. لقد
كان هذا المفهوم يستمد مقوماته وأسسه من المذهب الرومانسي الذي تأثر به المغاربة
في هذه الحقبة التاريخية. وكان مما ساعد على هذا المفهوم مجموعة من الأسباب :
أسباب ظهور الاتجاه الوجداني :
1 . العنصر الزمني. فمن الملاحظ أن الوعي
الأدبي الذي بدأ قبل هذه الفترة، وصل في مرحلة الأربعينيات إلى مستوى متقدم
2. استمرار احتكاك المغرب بالمشرق على نحو أشد، مما جعل الشعراء المغاربة يكتشفون طرقا جديدة في التعبير عن مشاعرهم وأحاسيسهم. ففي هذه الفترة تم التعرف بشكل أفضل وأعمق على المدارس الشعرية الجديدة، مثل أبولو والمهجر، والديوان.
3. مواصلة نشر الدراسات الأدبية والنقدية في صور أكثر عمقا في دراسة القضايا الأدبية والشعرية ومن الشعراء الشباب الذين أسهموا في هذه الحركة نجد: عبد الكريم بن ثابت، ومصطفى المعداوي وعبد السلام العلوي وعبد المجيد بنجلون وعلال بن الهاشمي ، إن هؤلاء الشعراء الجدد ذاتيون، ينطلقون من كون الشعر تعبيرا عن الوجدان وأسرار الذات، وهم في ذلك يلتقون مع أصحاب المدارس التجديدية في المشرق العربي. يلتقون معهم في التصوارت والمفاهيم، كما في الممارسة الإبداعية.
إن الشعر عاطفة قوية، وشعور عارم لدى شعراء
هذه المرحلة. وهو يقوم على عنصر الخيال. والخيال عند شعراء فترة الأربعين، بعيدا
عن الرتابة وقيود الحس. يقول علال بن الهاشمي الفيلالي:
فـي يـدي أرغن الخلود
أماتـو ه و قــد
كـان يـوسع الكـون دوا
فـتهاوت آلـهة الشعر
صـرعى من صدى الروح
ضاع في غير جدوى
مــن خيالـي صغت الجنان
فقالوا شــاعر شـاء لــتقاليد مـحوا
رفـرفي يا صلاة روحـي إلى
اللـ ـه وتيهي في وهلة الغيب زهـوا
الاتجاه
الواقعي في الشعر المغربي :
أما الحركة الواقعية التي دخلت في صراع
حاد ضد الرومانسيين في فترة الأربعينيات، فتختلف كل الاختلاف عن التيار الوطني
الذي عرفته حقبة الثلاثينيات. فالواقعيون الجدد يعترفون بأن الأدب معاناة قبل كل
شيء، وأنه تجربة ذاتية، ولكن على الشعراء جعل هذه المعاناة في خدمة قضايا الوطن.
والوطن يومئذ يئن تحت وطأة ظروف الاستعمار ففي نظرهم أن الوطن في حاجة إلى ما يزيح
عنه كابوس العبودية والظلم، لا ما يبكي وينتحب ويجتر أوهام الذات. يقوم أحدهم:
" فنحن نريد أدبا يمثلنا، لا أدبا ينعطف على الذات ويستغرقها". فالشاعر
هو الذي يرتبط بالحياة الواقعية، ويصف هموم الناس، ويعيش معهم مشاكلها اليومية. إن
الواقعيين أصبحوا يتحدثون عن الأدب الذي يحمل الرؤى والتصورات، وليس الأدب الذي
يحمل أفكار الإصلاح. يقول الأستاذ عبد
الله إبراهيم: " إننا لا نستطيع أن ننتج أدبيا مغربيا حيا، إلا إذا أنتجنا
أدبا إنسانيا حيا، ولن ننتج هذا الأدب الحي إلا إذا تيقنا بأن الحقيقة واحدة في
الشرق وفي الغرب، وأن الإنسان هو الإنسان في كل مكان".
المفاهيم الأدبية السائدة في
فترة الأربعينيات :
1. مفهوم الشعر الذي يضع نفسه في
خدمة وجدان الإنسان الفرد. وقد سار هذا المفهوم في اتجاهين اثنين: أحدهما مرتبط بالإنسان المغربي
في إطاره الضيق وبيئته المحصورة. وثانيهما متعلق بالإنسان المطلق.
2. مفهوم الشعر الذي يقف موقفا مخالفا، وينادي بالواقعية انطلاقا من وجدان الجماعة. وقد طرح مجموعة من التصورات في موضوع الأدب وطبيعته ووظيفته ورسالته.
3. مفهوم ثالث؛ وهو يحاول الجمع بين وجدان الفرد
والجماعة.
المحافظة والتجديد في الشعر التونسي :
الاتجاه المحافظ في الشعر التونسي:
يمتاز الشعر التونسي منذ نهاية القرن التاسع عشر
بالثراء والتنوع. فإلى جانب الشعر التقليدي الذي لم يبرح المواصفات الايقاعية
للقصيدة التراثية وأغراضها من مدح ورثاء وغزل ووصف للطبيعة وإخوانيات قد تمخض
الفكر الإصلاحي الذي انطلق في عهد المشير أحمد باشا عن لون جديد من الشعر انفتح
على قضايا العصر لعل أول من كتب فيه محمود قابادو (1813 - 1871). وقد انبثقت من
هذه التجربة في أواخر القرن نفسه حركة عرفت ب (الشعر العصري) امتد حضورها حتى
العقد الثالث من القرن العشرين. وكان من أبرز أعلامها المؤسسين محمد السنوسي ،
وصالح السويسي القيرواني ، ومحمد النيفر وحسن المزوغي ومحمد النخلي ، وعبد العزيز
المسعودي.
ثم واصل السير في الطريق الذي رسمه الشاذلي
خزنه دار (1881 - 1954) ومصطفى آغا ، وبلحسن بن شعبان ، فقد دعت تلك الحركة إلى
هجر أغراض الشعر العربي القديم وفتح القصيدة على قضايا العصر وتوظيفها في تصوير
مظاهر التقدم التي أفرزتها الحضارة الغربية الحديثة. لكن المتأمل في المدونة التي
أنشأها أولئك الشعراء في هذا الباب لفته غلبة النزعة التسجيلية عليها وعدم
انطوائها على تجارب فردية عميقة متميزة، ربما لارتباطها بمحور حضاري عام لا بقضايا
وجودية تتيح إمكان الإفصاح عن رؤى شخصية معمقة للذات والآخر والكون. مثال ذلك شعر
خزنه دار في الصورة :
بعثتُ لكاملٍ
مني مثالاً
ليبقى الودّ في
ذاك المثالِ
وقلت: إذا شكوت
البعد يوماً
تسلّ عن
الحقيقة بالخيالِ!
لقد
اتسمت هذه الفترة بهيمنة الشعراء الكلاسيكيين وكان أكثرهم من المخضرمين على
المنابر الأدبية في الدوريات ودور النشر والإذاعة. وإذا تأملنا دواوينهم وقد صدر
معظمها بعد الاستقلال وجدنا قصائدهم الجديدة تدور حول ثلاثة محاور شبه قارة هي
المديح السياسي واللون الديني والوجدانيات. فالغرض الأول هو تمجيد نضال الحزب
الدستوري في عهد الاستعمار وامتداح قائده. وأبرز من كتب في هذا اللون أحمد
اللغماني والهادي نعمان (1927 - 1993) والشاذلي عطاء الله والهادي المدني وأحمد
المختار الوزير والطاهر القصار ومحمد الشعبوني ، أما الغرض الثاني فمداره على
الابتهالات ومدائح الرسول (صلعم) وإحياء الذكريات الاسلامية. وأهم من كتب فيه
الناصر الصدام (1919 - 1992) والهادي المدني ومصطفي المؤدب وأحمد المختار الوزير
والحبيب المستاوي. وأما الغرض الثالث فيضم مختلف الموضوعات الوجدانية من حب وصبابة
وسهاد وفراق ولوعة وشكوى وحنين وتأثر بجمال الطبيعة. وغالبا ما تصور هذه الأحاسيس
والمواقف بأسلوب تطغى عليه التشابيه والاستعارات والكنايات والمجازات القديمة. ومن
نماذج شعر اللغماني قصيدة في بورقيبة مطلعها :
منستير والشاطئ الأزرق و مصطافه الآهل المشرق
وشهر أغسطس لما أطل حواشيه تبر واستبرق
أما
التحديث فقد سار في اتجاهين: الأول تنزل في إطار القديم حرصا على التواصل بين
الماضي والحاضر.والأخر كان امتدادا للشعر الشبابي الذي ظهر في المرحلة السابقة.
ويمكن تفسير ظهور الاتجاه الأول بأن الإحيائيين فرضوا ضربا من الرعاية على شق من
الشعراء الشبان، إلا أن هؤلاء - وقد تشبعوا بروح الشابي التجديدية - لم يخضعوا
تماما للوصاية بل طفقوا يبحثون عن مسالك مستحدثة داخل النمط الكلاسيكي نفسه . وذلك
بالحفاظ على عمود الشعر طبقا لمواصفاته الخليلية لكن مع التجديد في مستوى الأغراض
والموضوعات. أما الاتجاه الشبابي الأخر فقد اتجه إلى الشعر الحر مفضلا إياه على
العمودي.فالشق الأول يمكن أن نسمي الاتجاه الكلاسيكي الجديد. ومن أبرز ممثليه جعفر
ماجد الذي تميز في مجموعته نجوم على الطريق (1969) بقدرة فائقة على تطويع عمود
الشعر للتعبير عن رؤية جديدة قوامها الصورة الشعرية المبتكرة.
الاتجاه الوجداني الرومانسي في الشعر
التونسي :
وإذا رمنا الوقوف في حياة الشابي ومدونته على
العناصر الأشد إفادة أمكننا حصرها في أربعة أساسية: الاثنان الأولان خارجيان هما
الحركية التي أحدثها بإعلانه في محاضرته الخيال الشعري عند العرب سنة 1929 الثورة
على الشعر القديم جملة وتفصيلا وتوفقه، على صغر سنه، إلى تخطي حاجز المحلية الذي
كان مضروبا حول الأدب التونسي حتى عصره وإلى احتلال موقع على الصعيد العربي. أما
العنصران الثالث والرابع فداخليان. أولهما عمق تجربته والآخر هو تحميله الشعر
مفهوما جديدا في محيط طغى على هذا الفن الوفاء شبه التام لمواصفات القصيدة العربية
التراثية.ومن نماذج الشعر لدى الشابي :
ضحِكْنا على
الماضي البعيدِ، وفي غدٍ ستجعلُنا الأيامُ أضحوكة الآتي
وتلكَ هِيَ
الدُّنيا، رِوَايَة ساحرٍ عظيمٍ،
غريب الفّن، مبدعِ آياتِ
يمثلها
الأحياءُ في مسرح الأسى ووسط ضبابِ
الهّم، تمثيلَ أمواتِ
ليشهدَ مَنْ
خَلْفَ الضَّبابِ فصولَها وَيَضْحَكَ
منها مَنْ يمثِّلُ ما ياتي
وكلٌّ يؤدِّي
دَوْرَهُ..، وهو ضَاحكٌ على الغيرِ،
مُضْحُوكٌ على دوره العاتي
وقد
قدم الشابي تجربة عميقة في الحياة واللغة معا تعضدها وجوبا قدرات خارقة على التخيل
والإدراك والحدس زيادة على حساسية مفرطة شبه مرضية. ولكن هذا المفهوم الجديد للشعر
لم يقض على مفهومه القديم المتوار الذي استمر في الأخذ به عدة شعراء وجدوا انسجاما
بين رؤيتهم المخصوصة للواقع والذات والكون واقتفائهم آثار السلف. بل إن هذا
الاتجاه التقليدي هو الذي كانت له الغلبة كميا في عهد هذا الشاعر بحكم كونه مكونا
من مكونات الثقافة الرسمية. ومن أبرز ممثليه الطاهر القصار وجلال الدين النقاش والشاذلي عطاء الله ومحمد العربي الكبادي ، ومصطفى المؤدب ، ومحمد
فائز القيرواني.