ملخص المحاضرة الثانية
كيف بدأت القضية الفلسطينية
القضية الفلسطينية في الشعر العربي :
إنَّ مشكلة فلسطين مختلفة عن مشكلة أيّ مدينة
أخرى في العالم، وهي معقَّدة الخيوط، فعلى الرغم من صغرها نسبيّاً بين الدول الكبيرة في العالم غير أنها تعجُّ بالأماكن المقدّسة
عند أصحاب الديانات الثلاث، ولهذه الأماكن ذاكرة تاريخية تزيدها قداسة، ككنيسة القيامة
والمسجد الأقصى وسواهما، ومن هنا يتوقَّع المرء أن يطول زمن الصراع على هذه المدينة،
وأنَّ جميع الحلول التي تقترحها هذه الجهة أو تلك ستظلّ حلولاً مؤقتة وموضعية، فالصهاينة
لن يتنازلوا عن شبر واحد فيها، وقد حزموا أمرهم على ذلك، والعرب مسلمون ومسيحيون لن
يتنازلوا عن منازل الآباء والأجداد من جهة، ولن يسكتوا عما يُصيب مقدساتهم ومعتقداتهم
في هذه المدينة من جهة أخرى.
البطل التموزي وفلسطين العربية
قبل النكبة في الشعر الحديث:
يتجلَّى غالباً في الشعر العربي الحديث في هذه
المرحلة التي تمتدّ من الوعد المشؤوم إلى النكبة صورة البطل الملحمي الذي سينتصر على
هؤلاء الغرباء كما انتصر من قبل على جحافل الفرس والصليبيين والمغول وسواهم، وهو بطل
أسطوري خارق للمألوف ابتدعه الشعراء لهذه المناسبة ليستعينوا به عليها، سواء أكان هذا
البطل محدّداً بتسمية، كصلاح الدين الأيوبي أو خالد بن الوليد أم كان غير محدد، وسواء
أكان البطل واحداً أم جمعاً، ومن ملامحه أنَّه إيجابي . وقد ظهر هذا البطل مبكِّراً
في الشعر العربي في الوطن والمهجر، فلما صدر وعد بلفور بدأت القضية الملحمية في الشعر
القومي، ولا سيّما الشعر المهجري ووصلت درجة التفاؤل بهذا البطل وانتصار الأمة على
أعدائها إلى أعلى درجة من اليقينية والثبات، حتى إن قصيدة "وعد بلفور" للقروي
تُعدّ بشرى لهذا الانتصار:
الحقُّ منْكَ ومن وُعُودِكَ أَكْبَرُ فاحسِبْ حسابَ الحقِّ يا مُتَجَبِّرُ
تَعِدُ الوُعُودَ وتَقْتَضي إِنْجَازَها مُهَج العبادِ، خَسِئْتَ يا مُسْتَعْمِرُ
لو كُنْتَ من أهل المكارمِ لم تكُنْ من جَيْبِ
غيرِكَ مُحْسِناً يا بَلْفَرُ
عِدْ مَنْ تشاءُ بما يَشَاءُ فإنَّما دَعْوَاهُ خاسِرَةٌ وَوَعْدُكَ أَخْسَرُ
فَلَقَدْ نَفُوزُ ونحنُ أضْعَفُ أُمَّةٍ وَتَؤُوبُ مَغْلُوباً وأنتَ الأَقْدَر
وأبو ماضي الذي يردّ بقوة على الادعاءات الصهيونية
الكاذبة في أنَّ فلسطين أرض بلا شعب، وفي مقولة الحق التاريخي للشعب اليهودي في فلسطين،
وهو يفنّد الادعاءات في أبياته، فالعرب هم أصحاب فلسطين منذ أن كانت، وهم حُماتها وأبطالُها،
ولذلك يُبَشِّر بانتصار الأمة في قصيدته "فلسطين" التي صدرت ضمن مجموعته
"الخمائل" 1940، ويقول فيها:
فليسَتْ فلسطينُ أرضاً مشاعاً فَتُعْطى لمن شاءَ أن يَسْكُنَا
ففي العربيِّ صِفَاتُ الأنام سوى أن يَخَافَ وأن يَجْبُنا
وإنْ تَهْجُرُوها فذلك أَوْلَى فإنَّ "فلسطينَ" مُلْكٌ لنا
وكانتْ لأجدادِنا قَبْلَنا وتبقى لأِحْفَادِنا بَعْدَنا...
فَإنَّا سَنَجْعَلُ من أَرْضِها لنا وطناً ولكمْ مَدْفَنَأ
البطل التراجيدي والقدس الضائعة
فيما بين النكبة والنكسة:
كانت الصدمة التاريخية المفاجئة التي حلّت بالأمة
واحتلال القدس تدريجيّاً، نتيجة لحدثين متتاليين (1948 ـ 1967) في أقلّ من عشرين عاماً،
قاسية على الشعراء والشعر العربي الحديث، وقد أثّرت تأثيراً بالغاً في سيرورته واتجاهه
وبنيته في آنٍ معاً، ويمكن أن ندَّعي بأنَّ الصرخة الملحمية التي تجلَّت في شعر ما
قبل النكبة، وكانت موجَّهة إلى استنهاض الهمم للقضاء على الغرباء، قد تحوّلت إلى صرخة
أليمة حادة وزفرة رومانسية حارقة اتجهت إلى الداخل، ولاسيّما بعد النكسة وفقد الشعراء
الأمل إلى حدّ كبير بالبطل الملحمي، وحلَّ محلَّه البطلُ التراجيدي الذي استيقظ من
أحلامه الوردية على واقع مرعب ، وحلّ القلق محل الاطمئنان واليقين .
وربما كانت صرخة الشاعر عمر أبو ريشة في قصيدته
"بعد النكبة" معبّرة عن غياب البطل الملحي الذي كان ينتظره الشعراء من قبل؛
ولنستمع إلى آلامه الدامية وهو يخاطب أمته ويشكو منها إليها ويوازن بين ماضيها وحاضرها:
أُمَّتي! كم غَصَّةٍ داميةٍ خَنَقَتْ نجوى عُلاَكِ في فمي
أيُّ جُرْحٍ في إبائي راعفٍ فَاتَهُ الآسي، فلم
يَلْتَئِمِ
أَلإِسْرَائِيلَ تعلو رايةٌ في حِمَى المَهْدِ وظِلِّ الْحَرَمِ
كيفَ أَغْضَيْتِ على الذُّلِّ ولم تَنْفُضي عَنْكِ
غُبَارَ التُّهَمِ...
رُبَّ "وَامُعْتَصِمَاهُ" انْطَلَقَتْ مِلْءَ أَفْوَاهِ البناتِ اليُتَّمِ
لاَمَسَتْ أَسْمَاعَهُمْ لكنَّها لم تُلاَمِسْ
نَخْوَةَ الْمُعْتَصِمِ
وللشاعر زكي قنصل قصيدة بعنوان "خرافة السلام"
نظمها سنة 1955 يُحمّل فيها تبعات ضياع القدس وفلسطين لمن وقّعوا الهدنة بين العرب
والكيان المغتصب :
الْهُدْنَةُ النَّكْرَاءُ أَصْلُ بَلاَئِنا في عُنْقِ عَاقِدِها الدَّمُ الْمَطْلُولُ
لولا حَبَائِلُها لَحَطَّمَ سَيْفُنا وَكْرَ الرَّذِيلَةِ وانْتَهَتْ إِسْرِيلُ
مِلْيُونُ لاَجٍ في الْعَرَاءِ تَشَرَّدُوا
لم يَخْتَلِجْ لِهَوَانِهِمْ مَسْؤُولُ
ولبدويِّ الجبل قصيدة بكائية طويلة صارخة بعنوان
"من وحي الهزيمة" نظمها بعد حرب تشرين التحريرية 1973، وهو يبكي فيها على
المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس في ظلّ الاحتلال الصهيوني :
هَلْ دَرَتْ عَدْنُ أنَّ مَسْجِدَها الأَقْــصَى
مكانٌ من أَهْلِهِ مَهْجُورُ
أينَ مَسْرَى الْبُرَاقِ، والقُدْسُ والمَهْــدُ
وَبَيْتٌ مُقَدَّسٌ مَعْمُورُ؟
لم يُرَتّلْ قُرْآنُ أَحْمَدَ فيهِ وَيُزَارُ المبكى ويُتْلَى الزَبُورُ
طُوِيَ المُصْحَفُ الكريمُ، وَرَاحَتْ
تَتَشَاكى آياتُهُ والسُّطُورُ
أَيْنَ آيُ القُرْآنِ تُتْلَى على الْجَمْــعِ
وَأَيْنَ التَّهْلِيلُ والتَّكْبِيرُ؟
النَّصِارَى والْمُسْلِمُونَ أَسَارَى وَحَبِيبٌ إلى الأَسِيرِ الأَسِيرُ
ومع ذلك فإنَّ هذا البطل التراجيدي لا يَسْتَسْلم
لمصيره، وهو يؤمن أنَّه صاحب القضية، وأنَّ في القدس تاريخَ أجداده الأولين وأن عليه
أن ينهض من واقعه الحزين ليردَّ الاعتداءات عن نفسه وأهله ومدينته ومقدساته، وهذا ما
فعله سرحان الشابّ المقدسي في قصيدة "سرحان يشرب القهوة في الكفاتيريا "
لمحمود درويش الذي وضَّح الصلة المتينة بين بطله والقدس، فقال على لسانه:
وما القدسُ والمدنُ الضَّائِعَهْ
سوى ناقةٍ تَمْتَطِيْها البداوه
إلى السُّلطةِ الجائِعَهْ.
وما القدسُ والمدنُ الضائعهْ
سوى منبرٍ للخطابَهْ
ومستودعٍ للكآبَهْ.
وما القدسُ إلاَّ زُجَاجَةُ خمرٍ وصندوقُ تبغ..
..
ولكنَّها وطني.
منَ الصَّعْبِ أن تَعْزلوا
عصيرَ الفواكهِ عن كرياتِ دمي..
ولكنَّها وطني
عودة البطل الملحمي إلى فلسطين
بعد الانتفاضة:
"الانتفاضة" أو "ثورة الحجارة"
مصطلحان فرضهما الشعب الفلسطيني الأعزل على ثقافة المقاومة في العالم، وإننا نرى هذا
السلوك الذي بدأ في فلسطين المحتلة ينتقل إلى شوارع العالم ضدَّ الظلم، ولا شكَّ أنَّ
الفلسطيني أدرك بعد وقت طويل أنَّ الشعارات والخطب لا تفيدان في إرجاع الحقوق، ولا
بدَّ من أن يجد هذا الإنسان وسيلة مهما تكن بسيطة للدفاع عن وجوده وحقّه، فاتكأ على
نفسه في ردّ الظلم عنه، وكانت الانتفاضة وثورة الحجارة.
ثمة تسميات لهذه الانتفاضة: انتفاضة أولى وثانية
وثالثة، أو انتفاضة جنين أو غزة أو القدس، والحقيقة أنّها انتفاضة واحدة، وقد تداخلت
التواريخ والأماكن، والسبب واحد، وهو أنَّ الصهاينة تمادَوا في غيّهم، والهدف واحد،
وهو الحرية، والحقيقة أنها حيث يوجد الفلسطيني فثمة انتفاضة ، وإذا توقَّفنا عند حدث
كاستشهاد الطفل محمد الدرة ـ مثلاً ـ فإنَّه سيعجب فعلاً من مشاركة الشعراء العرب في
هذا الحدث، ويمكن أن يتوقّف الباحث عند ديوان الشهيد محمد الدرة، ليدرك استجابة الشعراء
السريعة للحدث القومي والتزامهم العفوي بقيم الشهادة والنضال في سبيل التحرير. يقول
نزار قباني :
بَهَرُوا الدُّنْيَا.. وما في يَدِهمْ إلاَّ
الحِجَارَهْ..
وَأَضَاؤُوا كالقناديلِ، وجاؤُوا كالبِشَارَهْ.
قَاوَمُوا.. وانْفَجَرُوا.. واسْتُشْهِدُوا..
وَبََقِينَا دُبَباً قُطْبِيَّةً
صُفَّحَتْ أَجْسَادُها ضدَّ الحرارَهْ..
وأخيراً نقف مع الشاعر محمود درويش، وهو يرسم
لنا في المزمور الثاني عشر من قصيدته الطويلة (مزامير) مدينة القدس التي يدّعي الغاصبون
زوراً أنَّ لهم فيها حقاً تاريخيّاً، وهي ستكون في المستقبل طروادة أخرى ويُنهي الشاعر
مزموره بتسبيحة العودة، وهي العودة الكاملة لكامل التراب الفلسطيني لأن القدس ستكون
آخر الحصون التي يتحصَّن بها الغرباء:
وَنُغَنِّي القدسَ: يا أَطْفَالَ بابلْ
يا مَوَالِيدَ السَّلاَسِلْ
سَتَعُودُونَ إلى القدسِ قريباً وقريباً تَكْبُرُون.
وقريباً تَحْصُدُونَ القمحَ من ذاكرةِ الماضي
قريباً يُصْبِحُ الدَّمْعَ سنابلْ.
آهِ، يا أطفالَ بابلْ
سَتَعُودُونَ إلى القدس قريباً وقريباً تَكْبُرُون.
وقريباً وقريباً وقريباً..
هَلِّلُويا هَلِّلُويا!
القضية الفلسطينية في الشعر العربي :
البطل التموزي وفلسطين العربية قبل النكبة في الشعر الحديث:
البطل التراجيدي والقدس الضائعة فيما بين النكبة والنكسة:
عودة البطل الملحمي إلى فلسطين بعد الانتفاضة: