اللغة الشعرية
علاقة الشاعر باللغة:
إن لغة الشعر التي نتحدث عنها ليست لغة غريبة يستمدها الشعراء من عالم آخر غير
عالم الناس، وإنما هي لغة يستوحيها الشاعر من المنابع نفسها التي يستقي منها الآخرون
كلامهم، إلا أن الشاعر يتعامل مع اللغة تعاملا مخصوصا يجعلها تتجاوز إطارها المألوف،
وتتمرد على نظامها المعياري، وتتحول من كلمات محدودة الدلالة إلى كلمات نابضة بالحياة،
فياضة بالحيوية ؛ لأنه يضفي عليها من روحه وعمق تجربته ما يجعلها كذلك.
الشاعر والقصيدة :
القصيدة الشعرية ليست التعبير الأمين عن عالم
غير عادي، إنما هي التعبير غير العادي عن عالم عادي، اللغة الشعرية لا تتحدد إلا من
خلال وظيفتها البنائية داخل القصيدة وهي وظيفة مزدوجة في بعدها: ترمي من جهة إلى التواصل
بحملها «مضمونا» ما، وتهدف من جهة ثانية إلى التأثير الجمالي والنفسي على المتلقي.
وهكذا يمكن أن نميز داخل اللغة الشعرية بين
مستويين : مستوى إخباري تواصلي، ومستوى رمزي أشاري، ولا فصل بين المستويين، إذ العلاقة
بينهما جدلية تنهض عل الإضاءة المتبادلة، فبدون المستوى الأول يتحول الشعر إلى الغاز
وطلاسم، وبدون المستوى الثاني، لا تتحقق الشعرية، وينعدم الفرق بين الكلام العادي وبين
الشعر، ونصبح آنذاك، في أحسن الأحوال أمام نثر موزون .
إن اللغة ليست قالبا للأفكار بقدر ما هي تعبير
عن رؤية مستعملها إلى العالم وهذا بالضبط ما
فرض منطق التطور على اللغة، فكلما طرأ تحول في حياة الإنسان، اشتدت حاجته إلى ابتكار
أشكال جديدة ، بإمكانها أن تستوعب هذا التحول.
مشكل اللغة في الشعر المعاصر:
ولعل المشكل اللغوي كان يحظى من لدن
"مجلة شعر" بحساسية خاصة وهناك مظهران _على الأقل – لهذه الحساسية : المظهر
الأول يتجلى في أن هذا المشكل كان سببا مباشرا في توقف الحركة عن النشاط، حين أعلن
يوسف الخال اصطدامها، بما اسماه جدار اللغة . والمظهر الثاني يتمثل في أن المشكل أثار
خلافا كبيرا بين أعضاء الحركة، يرجح أن يكون وراء الانسحابات التي عرفتها منذ1962 الشيء
الذي يدل على وجود صراع داخل حركة مجلة "شعر" بخصوص اللغة، بين جناحين جناح
يتبنى «اللغة المحكية » وكان يتزعمه يوسف الخال . وجناح كان يدافع عن اللغة العربية
الفصحى، وكان يقوده أدونيس .
التأثر بالنقد الغربي :
لقد وجدت دعوة بعض الشعراء الغربيين – وعلى
رأسهم ت .س . إليوت – إلى ضرورة اعتماد اللغة اليومية في الخطاب الشعري، صدى واسعا
لدى الشعراء العرب المعاصرين، فافتتنوا "بما حققه شعراء الغرب وبالآفاق البعيدة
التي بلغتها تجاربهم الإبداعية، وقد مال البعض إلى الاعتقاد أن واحدة من صعوبات اللحاق
بشعراء الغرب، واختزال المسافة الإبداعية القائمة، تبدو كامنة _ كما ذكر يوسف الخال
_ في كون الشاعر العربي يفكر ويكتب باللغة الحية لمجتمعه، في حين أن زميله العربي يفكر
ويتحدث بلغة ثانية.
ينطلق يوسف الخال في تحديده لما يسميه
" اللغة المحكية " من مسلمة تقول: إن "اللغة لا تنفصل عن الإنسان ،و
أنها أداة تتطور بتطوره، وأن صفاتها الأساسية واحدة في اللغات جميعا" وناقش المسألة اللغوية على ضوء هذه المسلمة. فاكتشف
أن "اللغة العربية مظلومة بالمتكلمين بها لقد تطورت بالكلام، ولكن المتكلمين لم
يعترفوا بتطورها بالكلام، كأي لغة حية في العالم، لقد طوروها بالكلام، ولكنهم يكتبونها
كما هي، حسب الطريقة القديمة التي لم تتطور. واقصد قواعدها ونحوها وصرفها، ولا أقصد
المفردات، اللغة العربية هي ذاتها، لغة الجريدة مثل لغة نهج البلاغة دون فرق إذن: اللغة واقعة في ظلم لابد أن ينفجر يوما".
هكذا يصوغ يوسف الخال إشكالية اللغة العربية،
أو ما يسميه " جدار اللغة "، فالمسألة تتعلق بازدواجية لغوية، ولكن ليس بين
الفصحى واللهجات، كما قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، بل بين المكتوب والمنطوق . فالمنطوق
يخضع لطقوس اللغة العربية التي لم تتغير منذ القديم ، والمنطوق يتمرد على هذه الطقوس
ويكون لغته بعيدا عنها.
ولما كان الكلام _ مثله مثل الكتابة – خلقا،
فان هناك علاقة تفاعل بين الكلام والكتابة، وهو ما أدى إلى تقليص المسافة بين الكتابة
والكلام، أو محوها، في اللغات الأخرى، أما في اللغة العربية "فلا يتم هذا التفاعل
إلا ببطء كبير، لأن لنا لغتين ، تطورت إحداهما عن الأخرى، واتسعت الهوة بينهما إلى
حد الانفصال ".
كيف يتم ردم هذه الهوة ؟ يقترح يوسف الخال
«اللغة المحكية » كمخرج من هذا المأزق اللغوي، وذلك بغية إذابة الفرق بين اللغة المكتوبة
(الفصحى) واللغة المنطوقة (العامية )، وهكذا أضاف لغة أخرى فأصبح التمييز بين ثلاثة
استعمالات للعربية ضروريا.
اللغة المحكية ويسميها يوسف الخال "اللغة
العربية الحديثة " كما سلف، وهي التي تحكي وتكتب في نفس الوقت، ويصر صاحب مجلة
" شعر" على أنها تطوير للعربية الفصحى،
لذلك يرفض أي فصل بينهما. ويشرح يوسف الخال مفهومه – "اللغة المحكية
" بقوله : «أنا نظريتي بكتابة اللغة المحكية أدبيا، مع الحفاظ على أصولها وانتمائها
للغة الفصيحة، لا أفصل بين المحكية والفصحى، أنا أقول إن اللغة التي كتبت بها (الولادة
الثانية ) هي اللغة العربية الحقيقية" تتميز بخاصيتين : أولاهما أن هذه اللغة
هي امتداد للعربية الفصحى، ولذلك فإنها تكرس أصولها، وتعلن انتماءها إليها، ثانيتهما
أن "اللغة المحكية " هي غير العامية، ومن ثم فإن "المحكية " يمكن
اعتبارها بمعنى ما فصيحة حديثة، في مقابل الفصحى القديمة وحداثتها هي التي جعلت منها
لغة الأدب بامتياز، إذ أن لا أدب حديث إلا بلغة حديثة، ما هي اللغة الحديثة ؟ هي التي
تحكي، لا التي تكتب ولا تحكي، هذه ليست لغة حديثه.
طبيعة لغة الشعر:
·
اللغة لا تحتوي الشعر بداخلها ولكن اللغة التي يستخدمها
الشاعر، بما تملكه من قوة إيقاعية
في
حروفها ومفرداتها، تتحول إلى لغة شعرية تحمل تجربة الشاعر.
·
اللغة الشعرية ليست اللغة البسيطة، أو التي تخالف
القواعد النحوية إنها اللغة التي تملك
أدواتها المتجددة.
·
وظيفة اللغة الشعرية تكمن أساسا في السحر والإشارة؛
فهي لا تعبر ولا تصنف أي لا تبوح
ولا تصرح، وهذا مصدر غموضها.
·
للغة الشعرية لغة لازمة تكتفي بذاتها وبعناصرها،
تبني عالما شعريا تجهله عناصره الأولية؛
حيث
اتخذت من وحدة الأضداد حقلا للعبة اللغوية
·
الشعر
ذاتي ولغته ذاتية.
·
الشعر
يكشف حقائق تثبت بالذوق أو بنوع من الحدس.
·
الشعر
يعبر لا يقدم الحقائق العلمية.
. السعيد الورقي: لغة الشعر الحديث، دار النهضة للطباعة والنشر، بيروت، ط3 ،1984
. عز الدين إسماعيل: دراسات نقدية في الشعر والمسرح والقصة، دار الرائد العربي، بيروت، 1978
. أدونيس: مقدمة الشعر العربي، دار العودة، بيروت، ط3 ،1978 ،
. عبد الرحمن محمد القعود: الإبهام في شعر الحداثة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ط1 ،2002 ،
. أحمد الطريسي أعراب: الرؤيا والفن في الشعر العربي الحديث بالمغرب، المؤسسة الحديثة للنشر والتوزيع، المغرب، 1987 ،