قائمة المقاييس

فهرس المحتويات








    get this widget

    الثلاثاء، 10 ديسمبر 2024

    الحس المأساوي في النص الشعري المعاصر

     




    الحس المأساوي في النص الشعري المعاصر

    تمهيد: 

           انقضـت النكبـة الفلسـطينية علـى عـالم عـربي لم يكـن قـد اكتشـف نفسـه بعـد، ولا تعـرف علـى أبعـاد فجيعتـه  الحقيقية فكان أول إنجاز بعد النكبة هو تحرير العقـول والنفـوس مـن الجهـل بالـذات، وكـان الشـاعر العـربي مـن جيـل  الشباب أول من أدرك بحدسه وعمق وجدانه أبعاد المأساة العربية، ولهـذا تعـد فـترة الأربعينـات مؤشـرا هامـا  في الشعر العربي لأنها كشـفت عـن تراجـع واضـح للشـعر العـربي القـديم بعـدما وصـل إلى حالـة مـن الانسـداد والتـوتر  والقلق طال الشكل والمضمون معا. 

       لم يكن الشعر السابق للنكبة بريئا من القلق وصراع القيم، غير أنه بعدها دخل في صـراع حـاد مـع نفسـه ومـع  القيم الإنسانية حوله أعنف بكثير من أي صراع سابق، ووصـل فيـه الشـاعر إلى درجـة عظيمـة مـن الإقـدام والمغـامرة  وحـتى يتحقـق لـه ذلـك لابـد أن يكـون أكثـر مـن مجـدد لنفسـه وللفـن، وأن يتحـدث لصـالح أمتـه ولـبلاده ولصـالح  الأجيال الصاعدة وأن يهز مفاهيم العالم من حوله، ويتنبأ له بما غاب عنه. 

     فكانت هـذه الفـترة فـترة إنكـار ورفـض علـى كـل صـعيد، خاصـة وأن جـراح الأمـم الكبـيرة قـد بـدأت بالانـدمال  فكانـت حقبـة تحـول جديـدة تعلـن عـن نفسـها، وبـدأ الإحسـاس بعـبء التعبـير عـن الحـس المأسـاوي الـذي يعاتبـه  الضمير العربي الجمعي يهيمن على النص الشعري العربي المعاصر، ويحتل موقعا كبـيرا منـه، ويبـدو جليـا في كثـير مـن  قصائد الشعراء على اختلاف توجهاēم وأدواēم الفنية. 

    أولا. الأسباب الظاهرة:

        إن قسما كبيرا من إحساس الشاعر المعاصر بالأسى والحزن والاغتراب واليأس من الواقع الاجتماعي يرجع  إلى الوضع الذي عاشه العالم العربي بعد الهزائم وسقوط فلسطين، وتصادم هذا الوضع مع الحال الراهن للشاعر  العربي والمبدع عامة، وهناك أسباب كثيرة أدت إلى انتشار هذه الظاهرة، أهمها: 

    ·         عامل التأثربالشعر:  بأعمال بعض الشعراء الغربيين من أمثال إليوت، ولاسيما قصيدته الشهيرة "الأرض  الخراب". 

    ·        عامل التأثر بالرواية : ببعض أعمال الروائيين والمسرحيين الوجوديين كألبير كامو، وجان بول سارتر، وكذلك النقاد  أمثال: كولن ولسون الذين ترجمت أعمالهم إلى العربية، و شاع انتشار ها في أوساط الشباب موجة من القلق والسأم  والضجر. 

    ·        عامل المعرفة:  والمعرفة ما نعلم هي زاد الشاعر الحديث وسلاحه، غير أنها كثيرا ما تتحول على لسانه  إلى أسئلة، ترهق الروح، وتمزق سكينة النفس، وتقود الذات إلى اتخاذ مواقف صارمة من نفسها ومن المجتمع  ومن الكون ، ومن المؤكد أم مثل هذا المناخ بخنق الإبداع، ويجعل المبدع مغتربا، عندما تصطدم أفكاره المثالية مع صلابة الواقع، لتنقلب أسى وحسرة وضياعا وكآبة وتمزقا في أشعارهم، التي تحولت إلى رفض وتمرد لكل شيء في الواقع  العربي. 

    ثانيا. نماذج عن الحس المأساوي:

         من الثابت أن أثر الشعر الغربي الحديث كان كبيرا على الشعر العربي الحديث ،وأن هذه النزعة المأساوية في  شعرنا المعاصر، ليست إلا نوعا من التأثر بأحزان الشاعر الأوروبي الحديث الذي عاين طغيان الحضارة المادية على  الروح بخاصة في القرن العشرين، ولكن من الخطأ الظن بأن التأثير الغربي وحده كان السبب في شيوع ظاهرة الحزن  والاهتمام بقضية الألم والأسى في شعرنا الحديث، لأن هذه القضية تكاد تكون هاجس الإنسان بشكل عام  والإنسان المبدع بشكل خاص. 

          ولقد اتسع مجال رؤية الشاعر المعاصر واكتسب نوعا من الشمول، فلم تعد أشكال الحياة أمامه ألوانا  مختلفة يستقل بعضها عن بعض، وإنما تتمازج فيها الألوان لكي تصنع الصورة العامة، ومن ثم لم يعد يرى الجانب المشرق وحده أو الجانب القاتم وحده، وإنما يرى الجانبين ممتزجين ، للخلاص من وطأة الزمن والمجتمع المتردي في نظره، كما نقرأ ذلك في قول بدر الشاكر السياب:  

    جيكور ماذا 

    أنمشي نحن في الزمن؟ 

    أم أنه الماشي؟ 

    ونحن فيه وقوف 

    أين أوله 

    وأين آخره، 

    هل مر أطوله 

    أم مر أقصره الممتد في الشجن. 

        إن الزمان عند الشاعر لا طبيعة له في هذا الكون، ولا قانون يحكمه، وهي الحقيقة التي تجلت بوضوح من  مجموع الاستفهامات المتوالية التي طرحها ، مما جعله يرسم هذا  الزمن في صور مثقلة بالمرارة والظلمة والإحساس بالعبث، ويتقاطع معه صلاح عبد الصبور في هذا الإحساس :

    هل تدري في أي الأيام نعيش 

    هذا اليوم الموبوء هو اليوم الثامن 

    من أيام الأسبوع الخامس، في الشهر الثالث عشر

    وذلك حين يقول ففي هذا الكون الموبوء، لا يعرف «الشاعر أين تنتهي ذاته، وأين يبدأ الكون، أين ينتهي الحب، وأين تبدأ  الكراهية، الشيء الوحيد الذي يعرفه حق المعرفة، هو رغبته في أن يتغير كل شيء، وأن يأخذ الوجود صيغة  جديدة.»

          وبهذا يشيع الحس المأساوي والحزن في النص الشعري العربي المعاصر، فتبدو مشاعر الشعراء مستلبة للروح  الإنسانية، وطاقة ملهمة لا تستنفر إلا من النقص الكامن في الحياة الإنسانية، وذلك « بوصفه شعورا استلابيا ينزع  من الإنسان أمته، وسكينته، ونشاطه الفاعل» ، ولكنه ملهم ومثير للإبداع في الوقت نفسه، وكأنه لازمة شعرية يقول أمل دنقل:  

    الطيور معلقة في السموات 

    ما بين أنسجة العنكبوت الفضائي للريح 

    مر شوقة في امتداد السهام المضيئة 

    للشمس، 

    (رفرف... 

    فليس أمامك- 

    والبشر المستبيحون والمستباحون: صاحون- 

    ليس أمامك غير الفرار... 

    الفرار الذي يتجدد كل صباح!). 

           إن كل شيء يحدث، إنما يحدث خارج الزمن، خارج الإطار العقلي، وعبثا يحاول العقل إخضاعه لقياس أورده النظام، فالزمن هارب في هذا المقطع الشعري حيث يعيش الطائر (الشاعر) بين محوري السماء والأرض، وفي  ، باحثا عن هذا المفترق الحرج « يتوحد الشاعر مع أشياء الكون، وينطق باسمها، بعد أن ينتقيها برية كالطيور» باحثا عن المعادل الموضوعي الذي ينسيه آلامه ويجدد آماله كل صباح. 

        ودواعي الأسى لدى الشاعر المعاصر متعددة لا تنحصر في تغير الزمن ولا منطقيته وإنما تعود إلى طبيعة  الإنسان ذاته وإلى هموم الواقع المعاصر ومشكلاته، فحين «وقع العراق فريسة لسياسة القهر والتآمر تتناثر فيه  أشلاء الأحياء وتبدو رؤية العالم من خلال منظور الدم الذي يغطي سطح المدينة، وتتراءى القبور التي تزخر بالأحياء» كتب بدر شاكر قصيدته "الموس العمياء" يقول في أحد مقاطعها:

    الليل يطبق مرة أخرى فتشربه المدينه 

    والعابرون إلى القار مثل أغنية حزينه 

    وتفتحت كأزاهر الدفلى مصابيح الطريق 

    كعيون ميدوزا تفجر كل قلب بالضغينه 

    وكأنها نذر تبشر أهل بابل بالحريق.

        مقدمة ترسم أجواء أسطورية من الحزن والبؤس في مدينة بغداد التي تحول فيها كل شيء إلى شقاء، يبشر  بالدمار وبالحريق الذي سيعم أهلها جراء الواقع السياسي، وينبئ بالانهيار والتهدم والسقوط.  ونعاين الحزن والاغتراب أيضا في أشعار عبد الوهاب البياتي، وذلك حين يصور التوتر الدرامي بين اندفاع  آماله في الوصول إلى مدينته نيسابور، وبين ما وجد فيها من متسولين وظلم من الحكام، فيطوف البلاد بحثا عن  المثال، ليصطدم بالدم يسيل في كل مكان من العالم، فيقول في مقطع من قصيدته "الذي يأتي ولا يأتي" :

    القمر الأعمى ببطن الحوت 

    وأنت في الغربة لا تحيا ولا تموت 

    نار المجوس انطفأت 

    فأوقد الفانوس 

    وأبحث عن الفراشة 

    لعلها تطير في هذا الظلام الأخضر المسحور. 

        إن الشاعر مغترب عن زمنه الضائع ومدينته الضائعة أيضا، ولكنه ملتزم ومؤمن بحتمية انتصار الثورات  والإنسان وولادة  نيسابور الجديدة، أما «التمرد الوجودي فهو يتعلق بمصير الإنسان الكلي ورفضه للحياة، وموقفه منها أنها لا تستحق أن تعاش في حين أن الشاعر الملتزم متعلق بالحياة.»  

       وهو التعلق الذي نقرأه في شعر أدونيس، رغم ما عاناه  من قلق وغربة وكابد في توقه الدائم إلى المطلق، ومع  ذلك لم يشعر خوفا من الألم والأسى أو خشية منه، بل على العكس ربما رأى فيه وسيلة لعناق الأبدية:   

    وقيل: كانت زوجة فقيرة 

    هنا وراء التلة الصغيرة 

    حبلى 

    وبين الليل والنهار 

    في الصمت 

    في التمزق المضيء 

    تنتظر الطفل الذي يجئ.  

           فأدونيس لا يبحث عن زمن ضائع، وإنما للزمن وجود ذاتي متميز عنده، فهو يبحث عن زمن لم يولد بعد يكون معه الأمل والتجدد والخصب (الطفل الذي يجيء)، وبالتالي الرؤية والوعي والتواصل مع الحياة من جديد. 

    خاتمة

        هكذا نجد الشاعر العربي المعاصر يمزق من قصائده ثياب الأسى والألم والوجع ليخرج لنا حياة الغربة والجوع  والإذلال من أجل الضمير الجمعي، وبنية الأسى لديه تتأسس على أفكار مختلفة تتوزع بين رفض الزمن  اللامنطقي، وعلاقته بالعالم، وكذا علاقته بذاته، وتنبني هذه العلاقات في مجموعها على التجاوز والتنافر في الوقت  نفسه، وعلى الانفصال لا الاتصال، ومع ذلك يحتشد الأمل بحركة الحياة رغم ثمالة الموت وطغيان الأسى، وسطوة  الألم وتعاقب  الهزائم  واحدة بعد أخرى في الوطن العربي .


    التحميل من هنا





    المشاركات المميزة

    مشاركات