النزعة الصوفية في النص الشعري المعاصر
تمهيد:
إذا
ذكـر التصـوف بلسـان عـربي اتجهـت الأفكـار بصـورة مباشـرة إلى النزعـة الصـوفية
في الإسـلام بكـل تاريخهـا القديم و
الحديث ومبادئها وفرقها وأعلامها، بيـد أن التصـوف الـذي نعنيـه في هـذا البحـث
هـو التصـوف بمعنـاه العـام من حيث هو
استبطان منظم لتجربة روحية، ووجهة نظر خاصة تحدد موقف الإنسان من الوجود ومن نفسـه
ومـن العالم.
وهو
بهذا ظاهرة إنسانية عامة، ليست محدودة بدين أو حدود ماديـة زمانيـة أو مكانيـة،
ومـن ثم يمكـن القـول إن التجربـة
الصـوفية قـد تنشـأ بعيـدا عـن الـدين، ولا ينفـي هـذا المفهـوم الإنسـاني العـام
للصـوفية وجـود تـأثير المفهـوم الإسلامي
الخاص في الشعر العربي الحديث و المعاصر، بل وجوده في الاتجاه الصوفي العربي بصفة
عامة.
أولا.الشعر والتصوف :
لم يكـن الشـعر بلغـة مـن اللغـات
أو في زمـن مـن الأزمـان بعيـدا في بعـض مـا يخـوض فيـه الشـعراء عـن
المفهـوم الإنساني العام للتصوف بوصفه
استبطانا منظما لتجربة روحية، و محاولة للكشف عن الحقيقة والتجاوز عن الوجود الفعلي للأشياء، ثم إن الشعر لا يصدر عن جمود
وطبيعة ثابتـة، إنـه تغـير مسـتمر دائـب ومعانـاة، والتصـوف كـذلك اضطراب فإذا وقع السكون فلا تصوف كما يقول صاحب
طبقات الصوفية، بل إننـا إذا نظرنـا إلى أحـوال الصـوفية كالمراقبـة والمحبـة والخـوف والرجـاء والشـوق
والأنـس والطمأنينـة والمشـاهدة واليقـين وجـدنا أنها تكـاد تكـون أحـوال الشاعر التي يصدر عنها إلهامه.
ثم إن التأمــل بالوجــدان والقلــب وســيلة مهمــة عنــد الشــاعر والمتصــوف علــى الســواء، ولهــذا اهــتم بعــض، وإن كانت الصلة بينهما وثيقـة بشـكل كبـير، الشعراء العرب المعاصرين بإيجاد رابطة عضوية بين الشعر والتصوف .
كما أن علاقة التصوف بالفلسفة هي علاقة قربى؛ بل هي علاقة سببية، فكل منها
بحاجة لأنفاس الآخر فغايتهما واحدة، وهي
البحث عن الحقيقة المطلقة.
ويتجاوز الشعر التصوف الفلسفي في
كونه يسعى إلى صوغ تجربة مع المطلق، فهـو لا يكتفـي بمجـرد البحـث والتقصي، لأنه
معرفة ذوقية وحدسية تتجاوز مقاييس الفلسفة ومنطلقاتها التحليلية وهناك من يرى أن
الصوفية هي أقـرب الفلسـفات إلى الشـعر،لأنها
سـعي متواصـل لكشـف الغـامض والمـبهم، والتعبـير عـن عـوالم الـنفس الداخليـة والجمال المطلق بأساليب رمزية لا تحدها حدود
العقل ولا تطالها المقاييس الضيفة:
ثم إن النزعـة الصـوفية في
الشـعر العـربي المعاصـر لا تـرتبط ارتباطـا عضـويا بمـذهب أدبي بعينـه، فقـد
توجـد في الكلاسـيكية بمفهـوم، وفي
الرومانسـية بمفهـوم آخـر، إذ تعـني عنـدهم « جهـد للهـروب مـن الواقـع وسـوداوية
عاطفيـة وتشـوق مـبهم » والثوريـون الواقعيـون لهـم صـوفيتهم إذ لمـا كانـت «
الصـوفية هـدما كليـا وتحطيمـا كـاملا لكـل مـا يشــمل الواقــع الإنســاني
بوصــفة ممارســة يوميــة تخلــو مــن أي تعبــير وجــداني فقــد شملــت كــل
معــاني الثــورة والتمــرد والعصيان وتشـوق مـبهم »
والوجوديـة
لهـا تصـوفها الـذي يعـني السـعي نحـو الوجـود المطلـق، والسـريالية لهـا تصـوفها،
ذلـك أن السـريالي « يغـوص في لاوعيـه
لمسـاءلة ذاتـه مقصـيا بـذلك آليـات العقـل ممتلئـا بنشـوة الفـرح المـاورائي
بعيـدا عـن عالمـه الأرضـي، احتفاء
بالعالم الفني هناك حيث تنسجم الذات مع عالمها، وتسكن إليه في ألفة ».
وعلى
ضوء هذه المفاهيم وغيرها راح كثـير مـن الدارسـين المعاصـرين يجعلـون مـن الـرائين
لحجـب الأزمنـة الآتيـة متصوفة، لأنه ومن
« خلال الرؤية الشعرية والحلم الواعي يرى متصوف عصرنا الواقع الكائن والواقـع
الممكـن، وهـو بذلك يخترق حجاب الزمن
الآتي إلى الزمن المستقبل فيؤدي بالنسبة لعصره دور القديم، دور النبوة » ولقد أدى هذا
الدور ثلة من الشعراء العرب المعاصرين ممن تشبعوا بثقافات فرضت عليهم نوعا من
التمرد الرافض لكل شـيء من أجل تغيير
الواقع بالكلمة الشاعرة.
ثانيا. مظاهر النزعة الصوفية في الشعر المعاصر:
والمتأمـل لتجـارب الشـعر العـربي المعاصـر،
يجـد بـلا شـك أن أهـم ظـواهر النزعـة الصـوفية في الشـعر المعاصـر الانسحاب من الحياة، ومعـنى هـذا الانسـحاب «
إقصـاء العقـل بصـورة متعمـدة عـن الأشـياء الـتي يمكـن أن تتجـاوز حقائقها
الظـاهرة والشـعور الكامـل بـالتحرر مـن القيـود كافـة الـتي تشـعر الإنسـان
بعبوديتـه » ، ومشـكلة الإنسـان المعاصـر إحساسـه بضـيق الرؤيـة، ولا تتسـع رؤيتـه
إلا إذا تجـاوز مـا وراء أفقـه الإنسـاني، لـذا وجـد في الرؤيـا الصـوفية وسيلة للانسحاب من الحياة، وفرصة للتأمل للوصول
إلى الحقيقة.
وفكـرة الانسـحاب مـن الحيـاة كثـيرة عنـد شـعرائنا المعاصـرين، ولعـل قصـيدة "مـذكرات الصـوفي بشـر الحـافي" لصلاح عبد الصبور، من أهم القصائد دلالة على هذه الفكرة، خاصة وأنه يقدم لها بالحديث عن بشـر الحـافي: « مشـى يومـا في السـوق فأفزعـته النـاس، فخلـع نعليـه ووضـعهما تحـت إبطيـه وانطلـق يجـري في الرمضـاء » يقول صلاح:
حين فقدنا الرضا
بما يريد
القضا
حين فقدنا الرضى
بما يريدُ القضا
لم تنزل
الأمطارْ
لم تُورِق
الأشجارْ
لم تلمع
الأثمارْ
حين فقدنا الرضا
حين فقدنا
الضحِكا
تفجرت عيوننا
... بُكا
يقر
الشاعر منذ الوهلة الأولى بضياع كل شيء وفقدان كل ما هو جميـل، وهـي إدانـة
ببدايـة الانسـحاب مـن الحياة، فالإنسان
حين يفقد كل شيء حتى الرضا بالقدر لابـد أن يعلـن عـن رفضـه للحيـاة وكـل مـا في
الوجـود، فـلا الأمطـار موجـودة ولا
الأشــجار مورقـة ولا الأثمــار لامعـه، فمــا جـدوى البقـاء في هــذه الحيـاة
الجــرداء الخاويـة علــى عروشها.
وبنـوع مـن الصـوفية الصـامتة يواصـل الشـاعر
مـذكرات بشـر الحـافي الـتي تمثـل في الأصـل مذكراتـه كفـرد عـربي معاصر ضاق ذرعا بهذه الحياة وبهذا الواقع الأليم فيقول :
احرص ألا تسمع
احرص ألا تنظر
احرص ألا تلمس
احرص ألا تتكلم
قف
وتعلق في حبل الصمت المبرم
ينبوع القول عميق
لكن الكف صغيرة.
يعـاني بشـر عبـد الصـبور مـن واقـع يجـبره علـى الانتمـاء المشـكل في الفكـرين السياسـي والإنساني المزيف، وفي المعاناة يحاول أن يجـد لنفسـه صـومعة يفـر إليهـا هربـا ولـو عـن طريـق ممارسـة الصـمت والتعلـق بحباله.
وعلى هذا النحو من العزلة
والانسحاب مـن الحيـاة تسـتمر مـذكرات بشـر الحـافي لتكـون إدانـة كاملـة
ورافضـة للإنسـان والوجـود والحيـاة، وهـي
في الحقيقـة رؤيـة صـوفية لعبـد الصـبور تنظـر إلى الواقـع العفـن وتريـد أن
تتجـاوزه إلى الأفق النوراني الأعلى:
الإنسان
الإنسانُ عَبَرْ
من أعوام
ومضى لم يعرفهُ
بشرْ
حَفرَ الحصباءَ
ونامْ
وتغطى بالآلام
....
إنه
انسحاب من الوجود الذي ينضج بالخزي والعار ويتحول فيه الإنسان إلى رموز حيوانية
مادية وإلى قوى شـيطانية لا يملــك صــاحب
الــنفس الأثيريــة إزاءه إلا الصــمت وتمـني المــوت ، مــا دامــت الحقيقــة مغيبــة في هــذا الوجود
وما دام الظلم والجور أوقف كل معنى جميل وزرع العذاب والألم في النفوس، ثم إن هذه
النظرة الصوفية عنـد عبد الصبور فيها إسقاط للماضي على الحاضر، إذ أن مذكرات بشر
عبد الصبور أو صلاح الحافي، لا فرق فالزمن
واحد والإنسان واحد.
وتتعلق بالظاهرة الأولى بظاهرة أخرى تتمثل في
فقدان الشعور بالأنا أو "حضور الشعور الجمعي"، ولا شك في أن التجربة الصوفية تأكيد للوعي ينطوي على
فقدان كامل للشعور بالأنا، أو تعـني « كـل عاطفـة صـادقة متينـة الأواصـر، قويـة
الأصـول، لا يسـاورها ضـعف، ولا يطمـع فيـها ارتيـاب » وهـذا مـا يعـود علـى
المتصـوف بالبهجـة والسعادة الروحية، فهو يعزف عن ذاته ليستغرق في المطلق
الأزلي.
ولقـد تعمـق الشـاعر العـربي المعاصـر في البعـد
عـن أنـاه، ونلمـح ذلـك بشـكل كبـير في شـعر علـي أحمـد سـعيد الذي اهتم بعلاقة الشعر بالتصوف، لا بما كتب من
شعر فحسب؛ بـل بمـا قـدم في دراسـاته الأدبيـة أيضـا، وخاصـة في ديوانه "مفرد بصيغة الجمع" الذي
اقتبس عنوانه من اصطلاح صوفي قديم، إذ يقول أدونيس في إحدى قصائده:
الضياع الضياع...
الضياع يخلصنا
ويقود خطانا
والضياع
ألق سواه
القناع،
والضياع يوحدنا
بسوانا
والضياع يعلق وجه البحار
برؤانا
والضياع انتظار.
يبتعد
أدونيس في هذه المقطوعة عن ذاتيته تماما، ولا يرى الأشياء من خلال ( الأنا )، لأنه
يعبر عن وجدان الإنسـان المعاصـر الـذي
يمـل الأشـياء الثابتـة والمتحركـة، خاصـة وأن الضـياع لم يظـل معضـلة إنسـانية
تـدفع ( أنـاه ) الضائعة إلى البحث عن
طريق لتجاوزها، بل غدا شأنه شان المعضـلات الوجوديـة الأخـرى بـؤرة للخـلاص
الإنسـاني
العاجز عن إدراك الوجهة الصحيحة التي تبلغه مأمله، وتغيم الرؤى أمامه ويحس الضياع والغربة والألم. ولـيس غريبـا أن ينطلـق أدونـيس مـن رؤيـة صـوفية تنظـر بـالمفهوم الجمعـي لا الأنـا الفـردي، لأنـه يـدرك أن « التجربة الصوفية تنطلق من القول أن الوجود باطن وظاهر، وأن الوجود الحقيقـي هـو البـاطن... والواقـع أن الصـوفية لم تعتمد في الوصـول إلى الحقيقـة المنطـق أو العقـل، ولم تعتمـد كـذلك الشـريعة، وإنمـا اعتمـدت مـا اصـطلحت علـى تسميته بالذوق، وهو الكشف المباشر الذي يتم عبر حال تتلبس الصوفي فتتبدل صـفاته، وتقـوده في حركـة تتجـاوز الشريعة إلى الحقيقة متجهة نحو الكشف عن الله جوهر العالم والفناء فيـه، فالتصـوف هـو شـوق الظـاهر إلى البـاطن وهو حنين الفرع للأصل وعودة الصورة إلى معناها »
يضاف إلى الظاهرتين السابقتين ظاهرة صوفية أخرى في شعرنا العربي المعاصر
وهي التبصر، أو الرؤيـة خلافـا للظاهر،
وقلة من الشعراء من يتمتع بهذه القـدرة علـى التبصـر، لأن الإنسـان الـذي يخـوض
التجربـة الصـوفية يـرى هذه الأشياء من
داخل نفسه، ويستطيع أن يشهد الجمال في غير ما يحس فيه البشـر جمـالا في العـادة،
وفي قصـيدة "أصوات ليلية" لعبد
الصبور تنكشف لنا أبعاد هذه الظاهرة خاصة في قوله:
شجر الليل على
مفرقنا مال، وأرخى
شعره المحلول في أكتافنا
ثم ألقى ثمر
الوجد، وأزهار الكآبة
في مآقينا وفي أكمامنا
واعتنقنا، وغصون
الشجر الموحش
حتى دب في أعطافنا
شبق الحزن الذي
كل دجى يعتادنا
ثم... ألقانا هنا
جائعات نشتهي،
كل مساء، موحش، شجر الليل.
إن المرئيــات هنــا تأخــذ شــكلا جديــدا ينبــع مــن نفــس الشــاعر، حــتى كأنها تتبــدى في شــكل غــير شــكلها المـألوف، لأنها تمـر بتجربـة روحيـة مكثفـة تفـتح أمامنـا مسـتويات غزيـرة، فالشـجر والليـل والشـعر والثمـر والأزهـار والغصـون وغيرهـا مـن المرئيـات ليسـت تلـك الأشـياء الـتي ألفناهـا، ولـذا يتوجـب علـى المتلقـي أن يغوص في أعمـاق نفسـه ويحـاول أن يتمثـل التجربـة الصـوفية للوصـول إلى دلالتهــا الحقيقيـة الـتي صـيرتها بصـيرة الشـاعرة إلى خطــرات شعورية.
ونجـد مـع التبصـر ظـاهرة صـوفية
أخـرى تقـترن بـه، وهـي القـدرة علـى النفـاذ إلى المسـتويات الأعمـق في الـنفس
البشرية وفي الكائنات، وهي نوع من الاستبطان الواعي، وخاصية التأمل هي جزء متأصل
في التجربة الصـوفية. يوجد في شعرنا المعاصر من برزت عنده هذه الظاهرة مثل خليل
حاوي ومحمود درويش، وإنها لتسهم إسـهاما كبـيرا
في الغموض الغالب على شعرهما، إذ يقول درويش في قصيدة " الخروج من
ساحل المتوسط":
لا توقفوني عن نزيفي
ساعة الميلاد قلدت الزمان، وحاولتني
كنت صعبا –حاولتني
كنت شعبا
–حاولتني مرة أخرى.
أرى صفا من
الشهداء يندفعون نحوي، ثم يختبئون
في صدري ويحترقون.
إن الذات في لحظة الاستغراق هذه
تتوحد مع العالم الذي تنظر إليه، لأنها تنظر إليه بعين الفن بما هو شكل ولون، ولا « تنظر إليه على أنه ذاته العاديـة
فـلا تعـود الصـورة أو المنظـر أو الواقعـة الجماليـة شـيئا خـارج الـذات، بـل يصـبح
الاثنــان كيانــا واحــدا، ويمحــي الزمــان والمكــان ويمتلـك الــذات وعــي
واحــد.»، فالشــاعر في تأمــل معانــاة الإنسان يحاول الوصول إلى أغوار نفسه التي
ينعكس عليها الواقع الأليم الذي يرفضه.
إن
الخطاب الشعري العربي المعاصر، وهو ينحو منحى صوفيا، يعتمد على خلفية عقدية تتأسس
من منطلق اعتبار الصوفية « من علوم
الشريعة الحادثة في الملة، وأصله أن طريقة هؤلاء القـوم لم تـزل عنـد سـلف الأمـة
وكبارهـا من الصحابة والتابعين ومن بعدهم
طريقة الحـق والهدايـة، وأصـلها العكـوف علـى العبـادة، والانقطـاع إلى الله
تعـالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها،
والزهد فيما يقبـل عليـه الجمهـور مـن لـذة ومـال وجـاه، والانفـراد عـن الخلـق في
الخلوة للعبادة. » وعليه فإن الشـاعر المعاصـر يعـيش حالـة جديـدة مـن المفـارق
الوجدانيـة بـين زمـن وزمـن آخـر، وإن كان قد عاش في السابق تجاربه مع الحس عندما
انفتح على مباهج الوجود.
والحقيقـة أن فكـرة وحـدة الوجـود مـن
الظـواهر الصـوفية اللافتـة للنظـر في شـعرنا العـربي المعاصـر والـتي كانـت أساسا في فكـر ابـن عـربي وإن كـان لا يريـد
بها وحـدة وجـود ماديـة، وإنمـا وحـدة وجـود مثاليـة أو روحيـة تقـرر وجـود حقيقة عليا هي الحق الظاهر في صور الموجودات،
ويعد وجود العالم بمثابة الظل لصاحب الظل.
لهذا يحرص ابن عربي على القول بأن « الحق منزه مشـبه معـا، فتنزيهـه في
وحدتـه الذاتيـة ومخالفتـه للحـوادث،
وتشبيهه في تجليه بصورها، وتختلف درجة تأكيده لجانب التنزيه أو التشبيه حتى
تكـاد تظنـه ماديـا، وقـد تغلـب عليـه
والشـاعر المعاصـر ذي النزعـة العاطفـة الدينيـة فيـتكلم بلسـان التنزيـه
وينكـر كـل مناسـبة بـين الله والمخلوقـات » والشاعر المعاصر ذي النزعة الصـوفية
لم يكـن مطالبـا بحـل التناقضـات في هـذه النظريـة، ولكنـه يستشـعر الوحـدة بـين
الخـالق والمخلوقـات أو كمـا يقول عبد
العزيز المقالح :
أغمضت عيني كنت في يدي
وكانت الأرض
معي، وكانت الأنهار
والشمس والأقمار
تغسلني من الداخل
تغسل الوجوه في العيون
تغسل وجه الليل
والنهار
حين فتحتها كان
الفراغ قاتما
وكان كفي
خاويا... وكانت الديار
الله كان حين كنت- موجودا-
وكانت الفراشات
تزين الحقول والجبال.
ونرى هذا التوحد بشكل آخر عند صلاح عبد الصبور
الذي نجد في شعره أمثلة كثيرة لنزعة التوحد الصـوفية بالفهم المعاصر، ولعل في قصيدة "الإله
الصغير" ما يكشف أبعاد الظاهرة، فهو يقول:
كان لي يوما إله وملاذي كان بيته
قال لي إن طريق
الورد وعر فارتقيه
وتلفت ورائي
وورائي ما وجدته
ثم أصغيت لصوت
الريح تبكي فبكيته
ذات يوم كنت أرتاد الصحاري كنت وحدي.
حين أبصرت إلهي
أسمر الجبهة وردي.
وإلهي كان طفلا
وأنا طفلا عبدته.
ولما كان الشعر جزء من الواقع، وهو يتقدم بتقدم
الزمن ويساير الحياة الاجتماعيـة، فـإن لـه صـلة بـالتحولات الاجتماعيــة والسياســية والفكريــة الــتي
حــدثت في الســتينيات ومــا بعــدها، هــذه التحــولات الــتي أفــرزت نوعــا
مــن الإحساس العنيف بالقلق والغربة في
هـذا العـالم الـواقعي، والـذي يمثـل في الحقيقـة مظهـرا مـن مظـاهر النزعـة
الصـوفية التي رافقت الشاعر المعاصر في
سعيه الدائب للوصول إلى الحقيقة التي ينشدها، شـأنه في ذلـك شـأن الصـوفي
الـذي لا تهدأ نفسه المتشوقة إلى الخلاص
من سجن المادة والزمن وفي هذا يقول بدر شاكر السياب:
وتلتف حولي دروب
المدنية:
حبالا من الطين
يمضغن قلبي
ويعطين، عن جمرة
فيه، طينة،
حبالا من النار
يجلدن عري الحقول الحزينة
ويحرقن جيكور في
قاع روحي
ويزرعن فيها
رماد الضغينة.
ينزع السياب منزع المتصوفة، فتتوحد ذاته الشاعرة بعالم المدينة المأساوي ويستبد به القلق ويعتصره، وتتحمـل روحـه المعذبـة المعانـاة في سـبيل رفـع رمـاد الضـغينة عـن مدينتـه المعذبـة، وإذا كـان الخـلاص عنـد السـياب منبثقـا عـن علاقـة الانـدماج بـالواقع المأسـاوي، والـذهول عـن الـزمن في تلـك المعانـاة المسـتمرة، فـإن إحسـاس القلـق والغربـة عنـد أمل دنقل تحول إلى عالم من الموت، أو تجسيدا له، فيقول:
عندما يبتلع
(الكورنيش) أضواء الغروب
تسعل الظلمة فيه والبرودة
يحمل الجوع إلى
العار... وليده
كلمات...
ثم تنسل من
البرد... لدفء العربات.
والمصابيح:
شظايا قمر... كان يضيء.
حطمته قبضة
الطاووس فوق الطرقات
ثم أهدته إلى
النسوة... كي يصلبنه فوق الصدور
يتباهين به...
وهو رفات!
كلمات... كلمات
إن القلـق والحـزن عنـد أمـل دنقـل لـيس حزنـا عاديـا أو ذاتيـا، إنـه حـزن وقلـق صـوفي، ولهـذا تنطـوي فيـه فـترات الـزمن وتتجســد ( الغــروب، الظلمــة، الـبرد، الــدفء )، ويمتــزج بالحيــاة والمـوت والانبعــاث ويقــترن بــالحلم والوحــدة والحقيقـة والـوهم، إنـه حـزن الفـرد العـربي المتحـير علـى واقعـه المأسـاوي المحكـوم بـالموت في كـل آن، والمحفـوف بالعبثيـة واللاجدوى.
ونجـد هـذه الخاصـية الصـوفية ماثلـة في كثـير مـن الأشـعار العربيـة المعاصـرة يضـيق بنـا المقـام لسـردها ويـأتي في مقدمـة هـؤلاء كـل مـن: عبـد الوهـاب البيـاتي، بلنـد الحيـدري، عبـد العزيـز المقـالح، أدونـيس، نجيـب سـرور، محمـود درويش... وغيرهم ممن يظهر رفضهم لهذا الواقـع الـذي يعـيش فيـه الإنسـان ويحـس إحساسـا عنيفـا بعـدم الانطـلاق والتحرر، إذ الأغلال تكبلـه مـن كـل حـدب وصـوب، أغـلال الزمـان والمكـان والمـادة واللاجـدوى وكـل مـا يشـده إلى التراب وحمأة الرذيلة.
ولما كان القاسم المشترك بين
الشعر والتصوف إضـافة إلى تقاسمهمـا للغـة الرمـز، هـو « اسـتخدام الصـوفي لغـة الشعر
للتعبير عن رجائه ووجـده العـارم، واسـتخدام الشـاعر مـنهج الـذوق الصـوفي منـارا
لإدراكـه ووعيـه» من الطبيعي أن يظلل الغموض لغة الشعر العربي المعاصر، وما يتصل
بلغتها من رموز تتصل بالباطن ولا تعـني شـيئا
ذا قيمة في المدلول الظاهري للألفاظ.
ويأتي
بدر شاكر السياب في مقدمة الشعراء العرب المعاصرين ذوي الاتجاه الغامض الـذي تمتـزج
فيـه الصـوفية بالرمزية لاعتمادها على
الجزء المبهم الغامض في ذات الإنسان، كما في قصيدته "مدينة السراب":
ترامت السنون بيننا: دما ونارا
أمدها جسور
فتستحيل
سور،
وأنت في القرار
من بحارك العميقة
أغوص لا أمسها،
تصكني الصخور،
تقطع العروق في
يدي، أستغيث: آه يا وفيقه
يا أقرب الورى
إلي أنت يا وفيقه
للدود
والظلام.
يتجاوز الشاعر في هذه المقطوعة الدلالة
اللغوية للألفاظ ويعتمد على مدلولها الغيبي في فهم العلاقات أو ما يسمى بنظرية التراسل ، كما اعتمد على الموسيقى
اعتمادا كبيرا في الإيحاء بالمعنى، شأنه
في ذلك شأن الصوفي في حلقات ذكره حين يغوص في نشوة استغراق جمالي.
خاتمة:
هكذا
نرى أن النزعة الصوفية بمعناها الإنساني العام، أو بمعناها الإسلامي الخاص قد تجلت
في شـعرنا العـربي المعاصـر في مظـاهر
شـتى، وهـي تحتـاج إلى تتبـع دقيـق لا يكتفـي بظـواهر الأشـياء، فـلا يكفـي إشـادة
أحـد الشـعراء المعاصـرين بــالحلاج أو
النفــري أو الســهر وردي أو ابــن عــربي أو ابــن الراونــدي لــتحكم بوجــود
النزعــة الصــوفية في شـعره، كـذلك لا
يكفـي وجـود بعـض المصـطلحات الصـوفية في أشـعار أحـدهم للتـدليل علـى نزعتـه
الصـوفية، لأن الأمور الظاهرة غير كافيـة،
وإنمـا المطلـوب هـو التعمـق في مضـامين أشـعارهم وتمثـل مـا فيهـا مـن أشـكال
خفيـة للأثـر الصوفي.
والحقيقة أن الحديث عـن تجربـة التصـوف عنـد
الشـعراء المعاصـرين لا يكـون إلا مـن خـلال الواقـع الاجتمـاعي والثقــافي والعقــدي الســائد في الأمــة
العربيــة، هــذا الواقــع الــذي تجســدت فيــه تناقضــات عديــدة واتســعت
لتشــمل مستويات معرفية متضاربة ظلت هي
المحور الأساس لصوفية الشاعر المعاصر الذي جاءت استجابة لهذا التضـارب، فصوفيته في أغلبها ثورة وتمرد ورفض للواقع
المأساوي، أو قلق وشعور بالغربة والاغتراب وتمني الموت دون الركـون إلى هذا الواقع والرضا بالسجن والقيد والعبودية،
ولا مفر إذا إلا بثورة الإنسان المعاصر على نفسه، وعلى واقعه، وعلى كل ما يقيد انطلاقه وحريته، كل ذلك من أجل
التغيير والتبديل في هذا الوجود.
( منقول بتصرف )