قائمة المقاييس

فهرس المحتويات








    get this widget

    الخميس، 12 ديسمبر 2024

    التكثيف اللغوي والفني في قصيدة النثر

     




    التكثيف اللغوي والفني في قصيدة النثر

    1.    معنى قصيدة النثر وصفتها:                         

            قصيدة النثر مقطوعة مفتوحة مستقلة لا تلتزم بقافية أو وزن،  فهي كلام غير مقفّى يعتمد على الصور الشعرية الفنية،  والبناء الموسيقي الداخلي،  تحتوي الكثير من الإيحاءات،  والصور الشعرية لتعوض انعدام الوزن في قصيدتها ، أطلق اسم قصيدة النثر يريد «التمييز بين  الشعر والوزن ، فالشعر مستقل بنفسه يمكن أن يكون منظوما أو منثورا ،  فالقصيدة يمكن أن تكون قصيدة نثر كما يمكن أن تكون قصيدة وزن ، وإن قصيدة النثر تأليف بين نقيضين لم يأتلفا من قبل،  وهما الشعر والنثر،  والشعر بأدواته التي يعتبرونها قيودا،  والنثر بتحرره .  وتتحكم فيها حساسية الفرد ، هي رواية مكثفة،  هي الشكل الطبيعي للإلهام،  بها اللغة الشعرية والوصف والإيقاع. »

    2.   قصيدة تخالف القاعدة الشعرية:

            قصيدة النثر عمل لغوي فني متكامل رغم أنه خارج عن القاعدة،  تتجلى فيه مقدرة الأديب في الغوص بالألفاظ ، والتصوير الجديد للمعاني للوصول إلى تذوق اللغة وحصول المتعة الفنية في الإدراك العقلي.

      وفي قصيدة النثر نستمع إلى نثر «منظم إيقاعي يستخدم مثل الشعر لعبة متغيرة من النبرات والمؤثرات الصوتية كالتكرار والمتجانسات الصوتية والسجع لكن هذا النثر الموقّع المتميّز موضوع بدوره في مكان من سلم يتدرج من النثر إلى الشعر العروضي دون قطع في تنظيم شكلي له كيانه الفني»

    3.   مشروع الكتابة الشعرية الجديدة:

    تمتلك القصيدة الشعرية الجديدة دلالة شعرية يحدد فيها المبدع  مكان لغته،  إنه يدرك الواقع الموصوف ليعوضه بخطاب حي من مادته الخاصة،  «ينمحي الموضوع شيئا فشيئا أمام ما يصلح التعبير عنه،  ويتجلى الإبداع في مظهره الحقيقي حينما نسلم بأنه يعبر عن نفسه باللفظ،  ويوجهه مشروع في ذلك،  فاللفظ وحده هو الذي يعبئ الوسائل،  ويحدد التقنية،  ويحقق الأثر،  فالقصيدة مناطق سطحية تنظم فيها أصوات الألفاظ،  فهي تتكون من أنوية متراصة،  ومراحل عليا لخطاب يخلق الحركة التي تكسبه الحياة،  هذه الأنوية والقطع المتقنة،  ولحظات الكثافة اللفظية،  تستدعي جميعها استعمال ثراء لغوي بارع،  وتعبئ صنافة من الوسائل الأسلوبية»

    4.   التنامي الداخلي في قصيدة النثر:

         يرى الدارسون أنّ قصيدة النثر «بنية حية وبناء متكامل،  وعمل فكري وشعوري متكامل ومتنامي،  وليست خواطر مبعثرة أو أفكاراً متفرّقة،  تتشكل من مقاطع،  وتنقسم المقاطع إلى وحدات صغرى تسمى أبياتاً،  وكلّ بيت يستكمل ما قبله،  وهو مقدّمة لما بعده،  وهي تجسّد بذلك إحساساً متّصلاً،  وفكراً مترابطاً،  وأبرز سمات قصيدة النثر الانسجام والتوازن،  ووظيفية الأعضاء،  والتنامي الداخلي،  ووحدة المناخ والشعور والموضوع والرؤيا،  وهو ما يطلق عليه بالوحدة العضوية، لكن القصيدة لا تتقدم نحو غاية أو هدف كالقصة والرواية والمسرح أو المقالة بل تعرض نفسها ككتلة لا زمنية، ففيها الإشارات والإيماءات،  والإلهامات،  والتلميحات التي تؤثر في فكر القارئ إلى حد التقبل والرّضى. »

    5.   ظاهرة التكرار في قصيدة النثر:

       لم يكن استخدام أسلوب التكرار مقصورا على شعر الأدب العربي بل عرفته أشعار كثيرة ،  فقد تميّز به «شعر كبار شعراء الانجليزية بدءا من “شكسبير” وحتى “إليوت” ، فعدوا التكرار في بعض صوره لونا من ألوان التجديد في الشعر،  ويحتوي أسلوب التكرار على كل ما يتضمنه أي أسلوب آخر من إمكانيات تعبيرية ، والقاعدة الأولية في التكرار أن اللفظ المكرر ينبغي أن يكون وثيق الصلة  بالمعنى العام ، وإلا كان لفظة متكلفة لا سبيل إلى قبولها إلا إذا بررت وجودها بجماليات خاصة ،  كما أنه لابد أن يخضع له الشعر عموما من قواعد ذوقيه وجمالية وبيانية ، فليس من المقبول مثلا أن يكرر الشاعر لفظا ضعيف الارتباط بما حوله ، أو لفظا ينفر منه السامع إلا إذا كان لغرض يتعلق بهيكل القصيدة العام،  فالتكرار يكشف عن اهتمام المتكلم بما كرر ،   وله دلالة نفسية لدراسة الأثر ، وتحليل نفسية كاتبه،  ويسعى التكرار إلى أن يكون الموضوع حاضرا في ذهن القارئ ،  وقد استمده الشعر الحديث من أصول فن الموسيقى ، وعلم الجمال الحديث ، فيعتمد الشعراء  تكرار أجزاء القصيدة ، ويتخذون من هذا التكرار مادة فاعلة في بنية القصيدة ،  والتكرار إما تكرار دلالة أو تكرار بنية . »

    ·        تكرار النّمط النحوي:  ويقصد به «تركيب لغوي يتكرر بوزنه لا بلفظه غالبا وقد سمّاه الدارسون القدماء بأسماء مختلفة،  فسموه “حسن التقسيم والترصيع والازدواج،  ولا يشترط أن يكون الحرف الأخير في كل تركيب مكرر واحدا،  ويكفي اتساق الفواصل لأجل الإيقاع،  وفي هذه الظاهرة اللغوية شواهد من الشعر العربي والقرآن الكريم والحديث الشريف،  وهو لون إيقاعي محبّب إلى نفس العربي.

    6.    ظاهرة الحشد اللفظي في قصيدة النثر:

          الحشد في اللغة الاجتماع ، وفي الشعر هو « مجموعة من المقدمات المتتالية التي هدفها التوصل إلى نتيجة ما ويكون في القصيدة الحديثة على هيئة مبررات متلاحقة ،  أو مجموعة من الجمل الإخبارية التي تنتهي بنتيجة إما تراتبية وإمّا مبنية حسب مقدمات ، وهي نتيجة منطقية لتلك المقدمات أو انقلابية ، والنتيجة الانقلابية هي تلك النتيجة التي تأتي على خلاف التوقعات بشكل غير محتمل منطقيا بالنظر إلى المقدمات المطروحة ، ففي حالة الحشد الترابي تكثر في القصيدة أو المقطع الدوال المترابطة بنائيا أو معجميا أو نفسيا،  وهذا الترابط يفرض سلطته على كل أجزاء المنطقة المحتشدة ، سواء أكانت سلطته هذه سلطة نحوية أو غير نحوية»

    7.   التراكم في قصيدة النثر:

         التراكم هو «القيمة البلاغية والمظهر الجمالي للخبرة التاريخية للمبدع ،  ولكي ندرك مفهوم التراكم ودور الخبرة فيه على المستويين الإنتاجي والجمالي ،  يجب أن نحدد القيمة الإبداعية للخبرة ودورها في نتاج المبدع،  فللخبرة الإنسانية  مجموعة من الأسس النفسية التي ترافق المراحل الخبرية ،  منذ بداية وعي الإنسان بالتجربة غير أنّ بعض هذه الأسس يبقى في الظل هامشا غير جدير بالاهتمام ، لكنه يملك دور المحفز والمساند لخبرات إنسانية تتصدى لاحتلال بؤرة الفعل الإبداعي عند تجربة استخدام مخزون هذه الخبرة ،  فتطفو إلى سطح الصدارة أسس نفسية فعّالة ومؤثرة في المعرفة والإدراك وبلورة الأفكار ، وهذه المرحلة التي يتحكم فيها الإطار الاجتماعي للفرد وظروف هذه البيئة مناخيا وجغرافيا ، بل ووضع الفرد الانتسابي والعائلي في هذا المجتمع المحيط به ، ثم  تندرج تلك الخبرات حتى يكتنزها صاحبها للاتجاه في طريق محدد ،  هذا الطريق هو الذي يحدد قيمة الخبرات المكتسبة ويميز بين الجوهري الأساسي منها والهاشمي،  فتصير لدى الفرد خبرات تخصيصية،  وبقدر تغلغل هاتين المرحلتين في نفس الإنسان  منذ  البدء يكون حجم الإبداع وقيمته،  وتتجنب القصيدة الاستطرادات والإيضاح والشروح وكل ما يقودها إلي الأنواع النثرية الأخرى. »

          فقد حلّت ظروف اجتماعية بالمجتمع العربي جعلت شبابه يحس ويتأثر،  ويعبر عن هذا الإحساس بما يراه مناسبا،  فابتدع قصيدة النثر لأنه يعيش الحرية،  ويعيش التحرر من قيود القديم،  وفي الوقت نفسه يحاول المبدع أن يجمع ما أمكن من أجزاء الصور النفسية والفكرية في مجتمع الحداثة انطلاقا من خبرته المعقّدة،  فهذا أنسي الحاج يقول مكثّفا:

    «صِرنا نفتّش عما نقول،  حتى بعد حين نصير مرتبطين

    وكلّما تنفّسنا خنقَتنا الكلمات

    قريبا يكون الذين آلمتهم بعيدين لا أقدر أن أشرح لهمْ

    وسَوف أسْهر على وجهي.

    صَنعت حربي فكم أود أن أصنع سَلامي.

    أفظَع ما شاهدت في عيونهم عصافير هاربة تعني أني خيّبتهم

    صَنعت شوقي فكيف أوصل حبّي

    صَنعت حبي فكيف أعطي عطائي»

    8.   تلاشي الفكرة في القصيدة:

           ظاهرة التلاشي هي الوجه العكسي للتراكم اللفظي ، ومعنى التلاشي «أن يأتي المبدع في النص بمتشابهات في الجذر أو في الصياغة أو في الفكرة ، لكنّه بعد ذلك يتخلص من تلك المتراكمات تدريجيا ليعود مرة أخرى إلى البسيط الذي منه بدأ ، أو ربما ليتلاشى كلية »   ولعلّ أبرز مثال على هذا ما نجده في قول محمد عفيفي مطر:

    «غموضُ دمِ هاربِ يتقلّب في صفحةِ الوجه،

    يخبو وينبضُ،

    خيطانُ من طائف الشّك يشتبكان

    التواريخ تمحُو التواريخ

    نمْل من الذِّكَر الباهَتة

    يُدحرج ما لم يكن في ترابِ الذي ربّما كان،

    كوب من الشاي يطفو على سطْحه ورق “العطر”

    …وصيْد الكلام يفرّ ويدنُو

    وأنت تفتّش في نبْرة الصّوت

    .. بين عمَاء دم، وترى طائف الشكّ.»

    فقد تلاشت فكرة “النمل “مع “الدم” المتحرك، ليعود إلى الفكرة المعنى وهي الشك والغموض.

    9.   الغموض في قصيدة النثر:

         الغموض في اللغة «ضد الوضوح ، والغموض والغامض المطمئن المنخفض من الأرض ، وقد غَمض المكان أي خفي ، وكل ما لم يتّجه إليك من الأمور فقد غمض عليك،   والغامض من الكلام خلاف الواضح وأغمض النظر إذا أحسن النظر أو جاء برأي جيد وأغمض في الرأي وأصاب» ، وقد عُني النقاد العرب بدراسة الغموض عناية فائقة  محاولين الكشف عن طبيعته ، ودراستهم له أمر بالغ الأهمية لاسيما أن الدراسات الحديثة للنقد تستهدي بما خلفوه لنا من توجيهات لا يمكن إغفالها ، «وقد ظهر الغموض بوصفه ظاهرة  فنية بنائية في صورة ثورة ضد الجمود والنمطية المعهودين وقتئذ ،  فقد مرت اللغة العربية في العصر العباسي بمرحلة النمطية ومن هنا رأى النقاد في الشاعر أبي تمام ( ت 231ه) خارجا على المألوف من أصول الشعر ، وعلى الرغم  من أننا نقرأ شعره الآن فلا نجد ما كانوا يقولون ،  فقد وجدوا في ذلك الوقت أن في شعره انزياحا لغويا غريبا،  لأن النمط الشعوري العام ينحصر فيما رسمته العادة.»

         و تدعو فلسفة بناء القصيدة الحديثة إلى «الغموض وعدم التجلي وإلى الرؤيا والحلم،  فلا تحديد لموضوع وغرض القصيدة الواحدة،  بل يعمد الشاعر إلى الإخفاء،  ثم إن المعاني الجزئية والمضمون من منطوق ومفهوم للتركيب لا ضابط لها، ولا قبض عليها، إنما القصيدة سراب يُغري بالجري فيهلك الإنسان قبل أن يرتوي، وذلك أن الشاعر يرى أن داعي الغموض هو ما تتسم به  القصيدة من البعد المعرفي، ففلسفته تقوم على تحطيم اللغة ومدلولاتها ومعيارية النحو، وتفريغ اللفظة والتراكيب مما تحمله من دلالات متتابعة عبر العصور،  فلا يصرح أو يبوح اللفظ أو التركيب بشيء حسي أو معنوي، فالمعرفة تحصل من الشيء العقلي الذهني الثابت، وقد يتأتى الغموض من تكاثف العناصر الفنية التي تغلب على تكوين النص الفني، من حيث الألفاظ ودلالاتها وإيحاؤها الموسيقي،  والتصويري، بعيدا عن أسلوب المحاكاة  لتجنب عقد مشابهة توجيهية تقريرية، حيث يعتمد الشاعر على النسيج البنائي للقصيدة وما به من تفاعلات داخل ألفاظها ، وقدراتها على فتح مجاهيل التلويحات والإيماءات مما يعطي تخصبا في عملية الإدراك.»  يقول محمد الماغوط إذ أغمض في الفكرة وأصاب:

    «معلّقا تعاستي في مسَامير الحَائط

    غارسَا عيني في الشّرفات البعيدةِ

    والأنْهار العَائدة من الأسْر

    رأيتُهم جميعا تحت السّماء الصفراءِ

    أغنياء ومسالمينْ

    فقراء ووحوشْ

    ملايين الأسنان تصطَدم في الشارعِ.»

    10.      حركية الصورة وأسلوبية التّخييل:

         تزخر قصيدة النثر «بعنصر التوتّر القائم على الهدم وعدم التقيد بسياق مرجعي محدد، فتحررت بذلك الصورة الشعرية من كل إطار مسبق في القصيدة التقليدية ومالت إلى الاهتمام بالتكثيف والانزياحات البعيدة، ولعبت لعبة الغموض الدلالي، ووقعت خارج التصوّر المألوف وهدمت الواقع بالتخيّل، فجرت فيها اللغة الشعرية لتضفي على الصور نوعا من الإشراق والتجلي، وتكسب الإيقاع ضربا من التدفق والفيض.» ففي هذا يقول محمد الماغوط:

    «مخْذول أنا لا أهْل ولا حبيَبه

    أتسكّع كالضّباب المتلاشِي

    كمدينة تحترِق في اللّيل

    والحنين يلسَع منكبَي الهزِيلين

    كالرّياح الجمِيلة، والغبَار الأعْمى

    فالطّريق طويلَة

    والغَابة تبتعد كالرّمحِ

    مُدّي ذراعيك يا أمّي. »

    11.      الخاتمة:

      قصيدة النثر عمل لغوي فني متكامل رغم أنه خارج عن القاعدة، تتجلى فيه مقدرة الأديب في الغوص بالألفاظ، والتصوير الجديد للمعاني للوصول إلى تذوق اللغة، وحصول المتعة الفنية في الإدراك العقلي.  كما في قصائد “محمد الماغوط”.

    في قصيدة النثر قطعا متقنة، ولحظات الكثافة اللفظية، تستدعي جميعها استعمال ثراء لغوي بارع، وتعبئ صنافة من الوسائل الأسلوبية كما في قصائد “محمد عفيفي مطر”.

    في قصيدة النثر اتصال الأسطر الشعرية واتحادها، وتنامي الصورة لدى المتكلم. كما في قصائد “أنسي الحاج”.

    شعراء التفعيلة يهتمون بالتكثيف والانزياحات البعيدة، ولعبة الغموض الدلالي، والخروج عن التصوّر المألوف وتهديم الواقع بالتخيّل.

      ومهما يكن فقد تجلت شعرية قصيدة النثر في التكرار تكرار الدلالة أو تكرار البنية، والتكرار النحوي الذي هو تركيب لغوي يتكرر بوزنه لا بلفظه غالبا، وفي ظاهرة الحشد اللفظي، وفي ظاهرة التكثيف والتراكم بفعل الخبرة المكتسبة لدى المبدع، وظاهرة التلاشي في أفكار القصيدة، وظاهرة الغموض بوصفه ظاهرة فينة بنائية، وعدم التجلي والرؤيا والحلم.

     

    (أحمد راجع )



    التحميل من هنا





    المشاركات المميزة

    مشاركات