قائمة المقاييس

فهرس المحتويات








    get this widget

    الخميس، 12 ديسمبر 2024

    النزعة الدرامية في الشعر العربي الحديث والمعاصر

     



    النزعة الدرامية في الشعر العربي الحديث والمعاصر

    1.    مقدمة :

          تتجه القصيدة العربية الحديثة نحو الدرامية, سواء في مضمونها النفسي والشعوري والفكري أو في بنائها الفني, والدراما المقصودة هنا ليست بالمعنى المسرحي, وإنما بالمعنى العام, وقد فسرها عز الدين إسماعيل بأنها(تعني ببساطة وإيجاز الصراع في أي شكل من أشكاله) وتعبر بذلك عن حركة الحياة وطبيعتها, فالقصيدة المعاصرة إذن لم تعد تتكئ على التقاليد الشعرية الموروثة, وإنما انطلقت إلى الفنون الأخرى تستعير من أدواتها وتكنيكاتها الفنية ما يساعد على تجسيد الرؤية الشعرية الحديثة بما فيها من تركيب وتعقيد .

         ومن أبرز سمات التفكير الدرامي أنه تفكير موضوعي, حتى عندما يكون المعبر عنه موقفا أو شعورا ذاتيا صرفا, وإلى جانب خاصيتي الحركة والموضوعية اللتين تميزان التفكير الدرامي, هناك خاصية أساسية لهذا التفكير هي خاصية التجسيد, لأن الدراما لا تتمثل في المعنى أو المغزى وإنما تتجسد الأفكار في محسوسات تتجلى فيها الحركة.

           لقد أخذ الشعر العربي يتطور في القرن العشرين تطورا ملحوظا نحو الدرامية, ليس المقصود من ذلك كتابة الأعمال الدرامية الشعرية  كالمسرحيات وإنما يقصد تطور القصيدة العربية من الغنائية الصرف إلى التوجهات الدرامية, التي تعكس لنا مجموعة من الأصوات ووجهات النظر, والصراع, وذلك من خلال توظيف أساليب مختلفة ومتنوعة, أبرزها: توظيف العناصر المسرحية (الشخصيات والزمان والمكان والأحداث والراوي), والحوار الداخلي والخارجي, وتنوع الأصوات والضمائر والأفعال, من هنا نجد القصيدة الحديثة تنأى عن الطابع الغنائي القائم على تصوير مشاعر ذاتية أحادية, وتقترب في المقابل من الطابع الدرامي القائم على تصوير صراع بين اتجاهات متصارعة, بحيث يكشف لنا هذا الصراع عن طبيعة الحياة المركبة والمنطوية على كثير من التناقضات.

    2.    العناصر البناء الدرامي :

    ·         الحوار الخارجي:

    -       الحوار هو حديث يدور بين شخصين أو أكثر في العمل الدرامي, وتفرضه طبيعة الموقف والحدث, وهو يصور صراعا بين إرادتين أو أكثر تعكس مواقف الأشخاص من الإنسان والطبيعة والكون, بما يمكن أن تمثله من أفعال وردود أفعال يتولد فيها الشيء من نقيضه داخل الحركة الدرامية.

    -       الحوار شكل من أشكال البناء الشعري تخرج به القصيدة من غنائيتها الذاتية, وفق ما يقتضيه موضوع التجربة الوجدانية لإغناء التجربة وإبراز جوانب الصراع الحياتي في شتى المجالات من أجل (تجسيد حركة الواقع الإنساني المادي والذهني تجسيدا حيا).

          لقد استخدم سميح القاسم هذا الجانب الدرامي في تنويعاته الشعرية المختلفة, للإفادة من الطاقات التعبيرية التي يمنحها هذا البناء للتجربة الشعرية, ويزيدها ثراء دلاليا, وكثافة تعبيرية شديدة, حيث يكون الحوار مكثفا( فالكلمة في القصيدة من الممكن أن تعادل صفحات في القصة لذلك يلجأ الشاعر في قصيدته إلى التلخيص والتكثيف في نفس الوقت بحيث تكون لكل لفظة دلالتها) و بحيث تختزن الكلمات المعاني وتختزن المدلولات الكبيرة في عدد قليل من الدوال التعبيرية.يقول في قصيدة (غرفة التحقيق):

    - اسمك؟

       - أيهم تريد؟

    الأول, الثالث, أم هذا الذي يحمله

    باسبورتي الجديد؟

    - عمرك؟

         - موتان ربيعيان

    وليلة تضمر لي أخرى.

    أو النهار

          يتجسد الحوار في النص في صوتين داخل القصيدة يجليان طبيعة كل من المتحدث فيهما, بحيث تبرز بشكل تلقائي شخصية التحدي لدى الشاعر المصمم كنموذج فلسطيني على الاستهانة بجلاديه, مما يتناسب مع موقف الشاعر الثوري , فشخصية المحقق هنا تبرز الجانب الروتيني التمهيدي لعملية تحقيق أشمل وأعنف لم تبرزها القصيدة.

       أما في قصيدة(ثرثرة في الشارع الطويل ) لبلند الحيدري فيكشف الحوار عن أزمة وجودية خانقة تضغط على الإنسان , وتجعل مقومات وجودة نوعا من العبث واللعب بمصائر البشر, فيقول:

    أمؤلم أن تلبس الحذاء كل يوم..؟

    - أجل... أجل, أكره أن أنزعه

    أكره أن ألبسه

    أكرهه, لولاه ما كانت لنا

    غير مسافات الرؤى في النوم

    لولاه لم نسأل

    ولم نرحل

    ولم نكن لغير أمسنا البخيل

    تكرهه.....؟!

    - أجل ... أجل, أبصقها بلا وجل

    لولاه ما كان لنا في الشارع الطويل

    الرعب

    والضياع

    والمدينة القتيل

    ·         الحوار الداخلي:

    -        يلعب المونولوج دورا مهما في الدراما الشعرية , نتعرف من خلاله ملامح الشخصية وأفكارها ومشاعرها الداخلية. فهو يكشف مستبطنات الشعور التي يحاول الشاعر أن يظهرها في قصائده مسقطا إياها على لسان الحال متلبسا في شخص قناع/هاجس , يظهر لنا ما يدور بين شخصه الظاهر وشخص نفسه المكنونة في داخله بحيث تبرز لنا أجوء الصراع بين الشعور واللاشعور بشكل كثيف معبر. فعندما يريد الشاعر التعبير عن أفكاره وعواطفه بأسلوب فني فإنه يعمد إلى تكثيف الصورة وتركيبها والتحدث إلى الجمهور من خلال قناع وهمي يغير شكله وصوته , فلا يعود ــ بالنسبة للمتلقي ــ الشاعر نفسه بل يتجسد أمامه من خلال شخصية خيالية.

    -       وقد يكون الحوار همسا ذاتيا لا يبرز الحوار مع شخص آخر غير صوت الضمير للإنساني للشاعر وشخصيته الداخلية التي تختفي وراء قناع الذات الجسمانية الخارجية و يميز الشاعر هذه الأصوات أحيانا بالأقواس أو بتغيير حجم الخط وشكله للفت النظر إلى هذا الصوت الداخلي النابع من ثنايا النفس, بحيث يتمكن المتلقي من تمييزه بسهولة, وهذا الصوت المميز يثري دلالة النص ويفتح آفاقه على العديد من إمكانيات التأويل والاستنتاج, ويثير انتباه المتلقي من خلال تغير الأصوات الداخلية في ثنايا القصيدة. يبرز الحوار الداخلي في قصيدة(اغتيال) لأحمد معطي حجازي فيقول:

    من أنا حقا ؟

    ترى هل كان عدلا

    أنني لم أعطه رد السؤال

    لو لم ندخل شريكين معا

    هل كان من حقي في هذا النزال

    أن أرى وجه غريمي

    دون أن أجعله يشهد وجهي؟!

               يبدأ الشاعر الفقرة بتوجيه سؤال إلى نفسه في حوار داخلي (من أنا حقا؟)والسؤال هنا سؤال استنكاري,وكأن الشاعر ينكر على نفسه هذا الأسلوب أو هذا الفعل (القتل),  فهل من العدل أنه لم يعطه رد السؤال , يعود هنا الصراع مرة أخرى ــ الصراع بين الذات الخارجية والذات الداخلية ـــ أليس من حق القتيل أن يعرف من قاتله؟ .

     ويقول فاروق جويدة في قصيدة(لا تنتظر أحدا فلن يأتي أحد):

    لا تنتظر أحدا...

    فلن يأتي أحد

    لم يبق شيء غير صوت الريح

    والسيف الكسيح...

    ووجه حلم يرتعد 

    ·         القناع الدرامي:

    -       هو وسيلة درامية استخدمها الشعراء للتخفيف من حدة الغنائية والمباشرة في القصيدة الغنائية, وهو تقنية جديدة لخلق موقف درامي يضفي على صوت الشاعر نبرة موضوعية من خلال شخصية يستعيرها من التراث أو الواقع, ليتحدث من خلالها على تجربة معاصرة بضمير مفرد المتكلم (أنا) إلى درجة أن القارئ لا يستطيع أن يفصل صوت الشاعر عن صوت هذه الشخصية, ويصبح الصوت النصي مزيجا من تفاعل صوتين تفاعلا عضويا, إلا حين يميل الصوت إلى القرائن النصية لتذكير المتلقي بأن النص يشير إلى تجربة معاصرة, ولذلك يكون القناع وسيطا بين النص والقارئ, وهو وسيط فيه من الماضي بصوت الحاضر, وصوت الحاضر بصوت الماضي, كما يندمج الذاتي بالموضوعي, والموضوعي بالذاتي للتعبير عن تجربة معاصرة وإن كان الصوت النصي يميل إلى هذا الزمن أو ذاك, وإلى تجربة الشاعر أو تجربة الشخصية المستعارة حسب القرائن التي يقدمها كل نص على حدة.

    -        وإذ كانت بنية قصيدة القناع مركبة من صوتين(الشاعر/ الشخصية)في زمنين (الحاضر /الماضي),فإن الصوت النصي يتضمن عناصر وصفات من هذا الصوت وذاك من دون أن يتطابق مع أي منهما بالضرورة تطابقا نهائيا, لأن ذلك يعني إلغاء أحد الصوتين وأحد الزمنين, وهذا يعني إلغاء أحدهما لمصلحة الآخر, وهذا عيب فني قاتل  يلغي الهدف من استخدام القناع الذي يكون أقرب إلى هذا الطرف أو ذاك, فالقرب شيء والتطابق شيء آخر, ولذلك كان القناع وسيلة تناصية أو حيلة بلاغية أو رمزا لتحويل القصيدة من المباشرة إلى اللامباشرة, مع أن الهدف من استخدام هذه الوسيلة لابد من أن يظل واضحا لدى القارئ, وهو الحديث عن تجربة معاصرة يعيشها الشاعر، ولذلك يجنح الشاعر إلى الاستفادة تناصيا من تجربة أو حدث أو موقف أو رؤيا في الماضي اتصف بها صاحب القناع, ليعيدها إلى الأذهان ضمن تجربة جديدة مماثلة أو معادل موضوعي, يمثل القناع شخصية تاريخية؛ صوفيا مثل الحلاج والغزالي؛ خليفة أو حاكما مثل عمر بن الخطاب وصقر قريش؛ شاعرا مثل أبي نواس والمتنبي وأبي العلاء ؛ نموذجا من النماذج العليا المتكررة في الأساطير والقصص الشعبي مثل برومثيوس وأدونيس وعشتار,أو السندباد), فالقناع من هذه الزاوية استعارة بعلاقة تفاعل بين الطرفين الحاضر في السياق والطرف الغائب الذي لا تكف فاعليته .

    -       كثيرا ما يلاحظ توظيف القناع عند أمل دنقل فهو ينوع المشارب التي يستقي منها شخصياته,السياسية والدينية والفلكلورية والأدبية كتوظيف المسيح عليه السلام للقناع الديني , وسبارتكوس للقناع التاريخي , وعنترة للقناع الفلكلوري /الأسطوري, والمتنبي للقناع الأدبي. يقول في قصيدة (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة):

    أيتها العرافة المقدسة..

    جئت إليك... مثخنا بالطعنات والدماء

    أزحف في معاطف القتلى , فوق الجثث المكدسة

    منكسر السيف , مغبر الجبين والأعضاء

    أسأل يا زرقاء..

    عن فمك الياقوت عن نبوءة العذراء

    عن ساعدي المقطوع .. وهو ما يزال ممسكا بالراية المنكسة

    عن صور الأطفال في الخوذات ..ملقاة في الصحراء

    عن الفم المحشو بالرمال والدماء؟!!

          لقد تداخل صوت الشاعر في بداية القصيدة مع صوت الجندي الذي عانى مصائب الحرب , وعاد يشكو لزرقاء اليمامة, ثم تحول هذا الجندي الزاحف فوق الجثث المتراكمة إلى عنترة, أو توحد معه ليربط بين الماضي والحاضر في نسيج القصيدة وبنيتها ليؤكد على اسمرار الطبقية البغيضة وجنايتها على حياة الأمة من منظور اجتماعي, ويبوح بأسرار نكسة حزيران .

    ·         الحدث:

    -        يعد الحدث من عناصر البناء الدرامي في القصيدة المتكاملة, وهو الحركة الداخلية في العمل الفني, وقد أولى أرسطو الحدث قديما أهمية خاصة, فهو عنده جوهر البناء الدرامي والفعل التام, له بداية ووسط ونهاية, ولا تنشأ وحدة الحدث عن كون موضوعها شخصا واحدا, لأن الشخص الواحد ينجز أفعالا لا تكون فعلا واحدا, ويختلف الشعر عن التاريخ في أنه لا يروي الأحداث التي وقعت, وإنما يروي الأحداث التي يمكن أن تقع, ولكن الحدث أخذ يتراجع أمام الشخصية في الدراما الحديثة, وأصبح في بعض الأعمال الفنية وسيلة للكشف عن خواصها, وكان لمعطيات الشخصية دور في تكون الحدث وتصاعده ونهايته, فإرادة الشخصية وصفاتها وطبائعها توجه الحدث, والحدث عند أرسطو بسيط أو مركب؛ فالحدث البسيط يعتمد حكاية واحدة, ويقوم الحدث المركب على حكاية رئيسية تغذيها حكاية فرعية أو أكثر.

    -       للصراع علاقة بالحدث, فإذا كان الصراع هو العمود الفقري للعمل الفني فإنه لا وجود للحدث دون الصراع, لأنه الحركة الداخلية التي  تتقارب وتتباعد فيها الإرادتان, لتدفع الحدث إلى تصاعده في لحظات من التوتر الدرامي.

    -       العمل الدرامي يتشكل بالحدث والصراع والحركة, وهي أركان يستند بعضها إلى بعض ويختلف رسم الحدث في القصيدة المتكاملة عنه في المسرحية الشعرية , فالشاعر يرسم الحدث بوساطة العناصر الغنائية, والعواطف الموسيقية, والصور الإيقاعية والحركة الدرامية, ويحاول أن يرفع الحدث إلى الشعر أكثر مما يفعل الشاعر المسرحي الذي يسعى إلى المواءمة بين الشعر والمسرح.

    -       الحث هو المادة الفعلية لتشكيل الزمن, وهو واحد من العناصر الحيوية التي تشكل مركز البنية السردية ومركزيته, تأتي من جانب توليده للعناصر الأخرى واشتباكه العضوي معها, وهو أيضا المادة الفعلية التي تدور على مسرح المكان والكفيلة بإظهار الشخصيات ونموها وبيان مصائرها, إن مجال الأحداث مجال واسع يشمل (الحكاية) وما تنتجه من وقائع, ويشمل أفعال الشخصيات وصراعها, وسيرها التي يبثها السرد.

        ونظم سعدي يوسف قصيدة (ميت في 'بلد سلامة'), حيث يصف فيها حادثة مقتل رجل يدعى عبد الله , ويبدأ الشاعر سعدي القصيدة بالحدث الأخير , وهو موت عبد الله, ثم يصف سكان البلدة الأحياء الذين هم مثل الأموات في هذا البلد:

    كان الظلام يكفن الضوء الأخير

    وتلوح أحداق الفوانيس العتيقة مُطْفَآت

          لا صوت..لا إنسان..

            صمت كالصلاة

           والليل يلتهم الحياة

      من قلب عبد الله وهو يموت في بلد السلامة

    ملقى يموت, مهمش الأضلاع, تغمره الدماء

    والأرض تشرب, والنجوم

    حمراء واسعة . وعبد الله مات

              يبدأ الشاعر بوصف زمان جريمة قتل عبد الله ومكانها ,فالظلام يسيطر على كل شيء, لا ضوء ولا صوت, المكان خال من البشر حتى الفوانيس مطفأة والصمت يلف المكان, ووسط كل هذا الصمت والظلام هناك عبد الله مهشمة أضلاعه , وغارق في دمه , والأرض ترتوي من هذه الدماء, وقد اختار الشاعر اللون الأحمر ليتناسب مع واقع الجريمة, وهنا انتهى الشاعر من النقطة التي بدأ منها وهو موت عبد الله , وقد بنى الحدث على نسق دائري يقوم على العودة من النقطة التي بدأ منها .

    ( منقول بتصرف )


    التحميل من هنا



    المشاركات المميزة

    مشاركات