قائمة المقاييس

فهرس المحتويات








    get this widget

    السبت، 9 نوفمبر 2024

    نصوص في الصورة الشعرية للتحليل

     




    " أنا والمدينة "  للشاعر أحمد عبد المعطى حجازي - يقول :

    هذا أنا

    وهذه مدينتي

    عند انتصاف الليل

    رحابة الميدان ، والجدران تل

    تبين ثم تختفي وراء تل

    وريقة في الريح دارت ، ثم حطت ، ثم ضاعت في الدروب

    ظل يذوب

    يمتد ظل

    وعين مصباح فضولی ممل

    دست على شعاعه لما مررت.

    وجاش وجداني بمقطع حزين بدأته ثم سكت

    من أنت يا ... من أنت ؟ الحارس الغبي لا يعي حكايتي

    لقد طردت اليوم

    من غرفتي

    وصرت ضائعا بدون اسم

    هذا أنا

    وهذه مدينتي !

       وأول صورة تصادفنا في هذه القصيدة هي صورة الجدران التي تقف كالتل ، أو كالتلال المتراصة بعضها وراء بعض . والحق أن أبرز ما في المدينة الجدران ، بخاصة أمام عين الريفي الذي ألف الطبيعة المفتوحة . إن الطبيعة في الريف تكشف عن نفسها ، ومرمى العين فيها يصطدم بالأفق . أما المدينة فكلها خفايا وأسرار ، وجدار يقوم بعد جدار ، يحجب النظر ، ويغلق الطريق أمام النفس فلا تجد ما تتعاطف معه . إن هذه التلال من الجدران لتشعر الإنسان بحقارته وضالته حين يقيس نفسه إليها . ترى أتتردد في القصيدة أصداء هذا المعنى ؟ إن القصيدة لتنمى هـذا الشعور وتؤكده من خلال الصور الأخرى التي ترد بعد ذلك . الوريقة ) وكونها وريقة يعلن منذ اللحظة الأولى عن تفاهتها وحقارتها ) التي دارت في الريح ثم حطت ثم ضاعت في الدروب ليست إلا صورة لتفاهة الإنسان وضياعه . وكل شيء في المدينة يضيع . كل شيء يتساقط دون الجدران . وكذلك الظلال ما تكاد تمتد حتى تذوب . كل شيء يتحرك ، وكل شيء يتطور ، وكل شيء ينتهي إلى لا شيء ، إلى الضياع . وليست الجدران وحدها ما يميز المدينة ، بل تميزها العيون كذلك . العيون التي تصنع بنظراتها سياجا من الجدران حول الإنسان تسجنه فيه . إنها تشل حركته و إرادته ، وتجعله عبدا للآخرين لا ملك نفسه . وكل هذه العيون قد تجمعت في « عين المصباح الفضولي الممل » ، في عين ذلك « الحارس الغبي » الذي لا يعي حكاية الشاعر . إنها حكاية مريرة ولا شك ؛ حكاية  هذا الشاعر . أن الجدران لتحجب عن نفسه كل شيء ، وتحول دون مطامحه ورغباته ، انه الآن طريد ( غرفته ) التي لقي فيها ذات يوم الأمن والراحة ، طريد نفسه التي هجرته وانشقت عليه ، وتركته يضيع كما يضيع  كل شيء في المدينة ، ولا تبقى إلا الجدران ، تلالا وراء تلال.

        وهكذا نجد رمز ( الجدران » قد ترددت أصداؤه في شتى جوانب القصيدة ، كما أنه بتفاعله مع الرموز الأخرى ـ الوريقة ، الظل ، عين المصباح ، الحارس - قد أحدث نوعا من التماسك الشعوري في القصيدة كلها حتى جعل منها صورة نفسية موحدة .

         وهنا تتضح لنا طبيعة الرمز العجيبة ، تلك الطبيعة الثنائية التي تجمع بين الحقيقي وغير الحقيقي في وقت واحد ؛ فالجدران والدروب والمصباح والحارس كلها عينيات واقعة في المدينة ، وهى بغير شك عوامل إثارة . إنها تمثل وقائع في حياة المدينة لا يمكن إنكار قيامها.  لكن هذه العينيات والوقائع في الوقت نفسه لا تمثل ـ ولا تقدر بذاتها أن تمثل ـ أي تركيبة عقلية ذات دلالة خاصة . وقد رأينا في تحليلنا للصورة المحملة المتمثلة في القصيدة كلها أن هذه العينيات قد خضعت لتركيبة عقلية خاصة جعلت لها في مجموعها وفى مفرداتها كذلك دلالة خاصة ، إن الصورة النفسية هي التي جمعت بين هذه العينيات وألفت بينها ، وهي التي نقلتها من واقعها المرئي إلى ذلك الوجود الفكري . ومن غير شك ستبقى هذه المرئيات مرئيات لها دلالتها الخاصة على وقائع معينة من الحياة ، ولا نزاع مطلقا بين وجودها الواقعي وغير الواقعي ؛ ففي قمة الدلالة الرمزية ما تزال الواقعة المرئية تثبت وجودها و تؤدى دورها ، وقد يستعمل الرمز لدلالته الحقيقية الواقعة. كل هذا صحيح، غير أن الصورة المحملة هي التي تحدد للرمز دلالته المطلوبة في اقترانه بالرموز الأخرى . وهذه الصورة المجملة - كما قلنا - تركيبة عقلية لا تخضع لعالم المشاهدة



    التحميل من هنا




    المشاركات المميزة

    مشاركات