" أنا والمدينة " للشاعر أحمد عبد المعطى حجازي
- يقول :
هذا أنا
وهذه مدينتي
عند انتصاف الليل
رحابة الميدان ، والجدران تل
تبين ثم تختفي وراء تل
وريقة في الريح دارت ، ثم حطت ، ثم ضاعت في الدروب
ظل يذوب
يمتد ظل
وعين مصباح فضولی ممل
دست على شعاعه لما مررت.
وجاش وجداني بمقطع حزين بدأته ثم سكت
من أنت يا ... من أنت ؟ الحارس الغبي لا يعي حكايتي
لقد طردت اليوم
من غرفتي
وصرت ضائعا بدون اسم
هذا أنا
وهذه مدينتي !
وأول صورة تصادفنا في هذه القصيدة هي صورة
الجدران التي تقف كالتل ، أو كالتلال المتراصة بعضها وراء بعض . والحق أن أبرز ما
في المدينة الجدران ، بخاصة أمام عين الريفي الذي ألف الطبيعة المفتوحة . إن
الطبيعة في الريف تكشف عن نفسها ، ومرمى العين فيها يصطدم بالأفق . أما المدينة
فكلها خفايا وأسرار ، وجدار يقوم بعد جدار ، يحجب النظر ، ويغلق الطريق أمام النفس
فلا تجد ما تتعاطف معه . إن هذه التلال من الجدران لتشعر الإنسان بحقارته وضالته
حين يقيس نفسه إليها . ترى أتتردد في القصيدة أصداء هذا المعنى ؟ إن القصيدة لتنمى
هـذا الشعور وتؤكده من خلال الصور الأخرى التي ترد بعد ذلك . الوريقة ) وكونها
وريقة يعلن منذ اللحظة الأولى عن تفاهتها وحقارتها ) التي دارت في الريح ثم حطت ثم
ضاعت في الدروب ليست إلا صورة لتفاهة الإنسان وضياعه . وكل شيء في المدينة يضيع .
كل شيء يتساقط دون الجدران . وكذلك الظلال ما تكاد تمتد حتى تذوب . كل شيء يتحرك ،
وكل شيء يتطور ، وكل شيء ينتهي إلى لا شيء ، إلى الضياع . وليست الجدران وحدها ما
يميز المدينة ، بل تميزها العيون كذلك . العيون التي تصنع بنظراتها سياجا من
الجدران حول الإنسان تسجنه فيه . إنها تشل حركته و إرادته ، وتجعله عبدا للآخرين
لا ملك نفسه . وكل هذه العيون قد تجمعت في « عين المصباح الفضولي الممل » ، في عين
ذلك « الحارس الغبي » الذي لا يعي حكاية الشاعر . إنها حكاية مريرة ولا شك ؛
حكاية هذا الشاعر . أن الجدران لتحجب عن
نفسه كل شيء ، وتحول دون مطامحه ورغباته ، انه الآن طريد ( غرفته ) التي لقي فيها
ذات يوم الأمن والراحة ، طريد نفسه التي هجرته وانشقت عليه ، وتركته يضيع كما
يضيع كل شيء في المدينة ، ولا تبقى إلا
الجدران ، تلالا وراء تلال.
وهكذا نجد رمز ( الجدران » قد ترددت أصداؤه
في شتى جوانب القصيدة ، كما أنه بتفاعله مع الرموز الأخرى ـ الوريقة ، الظل ، عين
المصباح ، الحارس - قد أحدث نوعا من التماسك الشعوري في القصيدة كلها حتى جعل منها
صورة نفسية موحدة .
وهنا تتضح لنا طبيعة الرمز العجيبة ، تلك
الطبيعة الثنائية التي تجمع بين الحقيقي وغير الحقيقي في وقت واحد ؛ فالجدران
والدروب والمصباح والحارس كلها عينيات واقعة في المدينة ، وهى بغير شك عوامل إثارة
. إنها تمثل وقائع في حياة المدينة لا يمكن إنكار قيامها. لكن هذه العينيات والوقائع في الوقت نفسه لا
تمثل ـ ولا تقدر بذاتها أن تمثل ـ أي تركيبة عقلية ذات دلالة خاصة . وقد رأينا في
تحليلنا للصورة المحملة المتمثلة في القصيدة كلها أن هذه العينيات قد خضعت لتركيبة
عقلية خاصة جعلت لها في مجموعها وفى مفرداتها كذلك دلالة خاصة ، إن الصورة النفسية
هي التي جمعت بين هذه العينيات وألفت بينها ، وهي التي نقلتها من واقعها المرئي
إلى ذلك الوجود الفكري . ومن غير شك ستبقى هذه المرئيات مرئيات لها دلالتها الخاصة
على وقائع معينة من الحياة ، ولا نزاع مطلقا بين وجودها الواقعي وغير الواقعي ؛
ففي قمة الدلالة الرمزية ما تزال الواقعة المرئية تثبت وجودها و تؤدى دورها ، وقد
يستعمل الرمز لدلالته الحقيقية الواقعة. كل هذا صحيح، غير أن الصورة المحملة هي
التي تحدد للرمز دلالته المطلوبة في اقترانه بالرموز الأخرى . وهذه الصورة المجملة
- كما قلنا - تركيبة عقلية لا تخضع لعالم المشاهدة