الأسطورة في الشعر العربي الحديث
1.
تعريف الأسطورة :
تُعرّف الأسطورة على أنها قصة خيالية لا تخلو
من بعض الحقائق، وتُعنى بتفسير الظواهر والكوارث الطبيعية، وتحمل صفة القداسة،
وتتوارثها الأجيال جيلًا بعد جيل، ويرى الباحثون بأن الأساطير نشأت نتيجة عجز الإنسان
عن تفسير الظواهر والكوارث وفهمها .
فالأساطير دائمًا مدخلًا جيدًا لفهم الشعوب
القديمة، ومعرفة طرق تفكيرها والثقافة التي يستندون إليها، وتجدر الإشارة إلى أن
فكرة كثير من الأساطير مثل أسطورة جلجامش، وأسطورة عشتار، وأسطورة العنقاء، أتت
لتعالج الأسئلة الوجودية التي ما برح الإنسان يحاول الإجابة عنها، وتعدّ أسطورة
العنقاء من أكثر الأساطير توظيفًا في الشعر الحديث، وتعني الطائر الذي يخلق نفسه
من الرماد مجازًا، وهي طائر وهمي بحسب المعنى الوارد في قاموس المعاني، فكرتها
متعلقة بالبعث بعد الموت إضافة إلى أن كثيرًا من الأساطير تعالج فكرة الحب وصراع
البقاء
2.
خصائص الأسطورة في الشعر الحديث :
للأسطورة في الشعر العربي الحديث دور بالغ
الأهمية، فهي الوسيلة المثالية للتعبير ونقل التجربة الشعرية السياسية والاجتماعية
والواقع المتخلف للمجتمعات العربية ، فقد ابتليت الدول العربية بالحروب والنكبات
التي أسهمت في حضور الأسطورة بشكل قوي لدى الشعراء العرب، في هذا العصر، حيث
اتُخِذَت رمزًا وقناعًا للمعاني والأفكار، وقد ظهرت في شعر العديد من شعراء العصر
الحديث، كأحمد شوقي، وأبي القاسم الشابي، والعقاد، وأدونيس، ومحمود درويش، ونزار
قباني، وبدر شاكر السياب، وللأسطورة في الشعر العربي الحديث بشكل عام خصائص
ومميزات أهمها:
·
القداسة : إن بعض الأساطير حدث مقدّس،
وجميع أبطال الأساطير هم من الآلهة. التشخيص والتمثيل: ويُعني به إعطاء الحيوانات
صفة البشر، فهي تتكلم وتشعر وتحاور.
·
جهولة المصدر: ويُعني به أن مؤلف الأسطورة مجهول، فهي تجارب الشعوب
محفوظة في الذاكرة الجمعية للإنسانية .
·
الإلهام : قابليتها للتكيف والتمثيل حيث تلهم الشعراء بأفكار جديدة، وصور
شعرية جميلة، مما ساهم في إعطاء النص الشعري روحًا جديدة.
·
البطولة : ففي كل أسطورة هناك بطل تاريخي خارق، نُسجت حوله قصص من الخيال،
ويساهم وجود مثل هذا البطل في شحذ همم القرّاء عبر اطلاعهم على القصائد والأشعار
التي تمجد هؤلاء الأبطال.
·
الأخلاقية: ومن خصائص الأسطورة أن لها هدفًا أخلاقيًا، حيث تغرس بعض الأساطير قيمًا
أخلاقية وإنسانية لدى الشعوب، فمن الأساطير ما يمجد المرأة وأمومتها وغيرها من
الصفات التي تدعو إلى الخير ونُصرة المظلوم.
·
التعالي الزمكاني: فزمن الأسطورة على الأغلب مطلق متعال جوهري يكرس ما هو
مشترك وثابت من الإنسان في حياة البشرية .
3.
أنواع الأساطير:
تُقسم الأساطير
إلى عدّة أنواع، وذلك حسب المغزى التي تحملُه إلى الناس، فقد كان يتمُّ التعامل
معها قديمًا على أنّها نصوص مقدسة لا يمكن التشكيك فيها، أما حديثا فظلت تحمل جوهر
طبيعة الإنسان في مواجهة المجهول والغامض من الحياة ، فطبيعتها الإنسانية تمنحها
شكلا من الخلود متكيف ومتحول يناسب تطور الإنسان .
·
أسطورة الخلق أو أسطورة التكوين: تتحدّث هذه الأسطورة عن
أصل الحياة وأصل الكون كلّه، وتتناول قصة خلق البشر بشكلٍ عامّ، وتحاول أن تذكرَ
مواضيع ظهور الآلهة عبر العصور.
·
الأسطورة التعليلية: وهي الأسطورة التي تفسّر
الظواهر الطبيعيّة حسب معتقدات تلك الشعوب وأفكارها وطبيعة تعاملها مع المجهول
والغامض .
·
الأسطورة الرمزيَّة: ارتبطَ ظهور هذه الأسطورة بممارسات
الحماية والشفاء من الأمراض كالسحر وتعد التمائم وحفظِ الأدعية التي كان الكهّان ينارسونها
ذات طبيعة رمزية.
·
الأسطورة الطقوسية: ارتبطت هذه الأسطورة بأشكال العبادات
وطرقها كافّة، واعتنت بالجانب التعبيريّ من طقوس الأفعال التي كانت تحاول أن تضمن
للمجتمعات رخاءها، وذلك قبل أن تتحوّل إلى حكاية أسطوريّة.
4.
توظيف الأسطورة في الشعر الحديث :
مع
ظهور الشعر العربي الحديث رجع الشعراء إلى نبع الأسطورة لما في ذلك من قدرة على التعبير عن القضايا
العامة التي لا يستطيع التعبير عنها مباشرة، كالظلم والاستبداد والتفرقة
الاجتماعية والفقر والمرض والحرمان والمعاناة وغيرها من الأمور التي كانت حاضرة
بقوة في المجتمعات العربية. ولأجل هذا التوظيف يلجأ الشاعر الحديث والمعاصر إلى آليات تتمثّل في ثلاثة جوانب هي:
·
الانزياح الأسطوري : إنّ المقصود بالانزياح الأسطوري هو مصطلح نقديّ يعني
تعديل الأديب أو الشاعر للأسطورة الأصلية وتكييفها كما يشاء بما يلائم قصده في
شعره أو نثره، وسبب هذا التعديل هو اختلاف المجتمعات بين القديم والحديث، ففي
البداية كان الشعراء يستخدمون الرموز الأسطوريّة ذاتها من دون تحوير أو تعديل،
ولكن بعد أن أتقن الشعراء منطق الأسطورة فإنّ عملهم في الأسطورة أخذ منحًى جديدًا
يتناسب ومتطلبات العصر الحديث والمعارف الجديدة التي أتقنها الإنسان. فالأسطورة
أشبه ما تكون بإعادة هيكليّة الواقع لتبني قوانينه كما يلائمها وفق رؤيةٍ
"تقوّض الحدود الفاصلة بين ما هو واقعي وما هو فوق الواقعي".
·
الخلفية الأسطورية : وهو أن يجعل الشاعر لقصيدته بُعدَين: مباشر وغير مباشر، فالمباشر هو
المعنى القريب إلى الواقع الذي يحيا فيه الشاعر، وغير المباشر ويمثل الخلفية
الأسطورية التي قصد إليها الشاعر في قصيدته، وهذا يجعل للنص مستويان من الفهم:
سطحي وعميق يرتبطان جوهريا ببعد إنساني .
·
البناء الفني: وهو أن يربط الشاعر بين البناء الفني وصياغة العنصر الأسطوري، ويتخذ
البناء الفني ثلاث حالات هي: صريح أو تام. جزئي. مضمر أو مبهم.
·
المطاوعة : ويقصد بها قابلية تشكيل الأسطورة وفقًا لرُؤى الشاعر وفلسفته، ولها
أشكال عديدة منها: التشابه والتماثل:
ويقصد بها إبراز الشاعر وجوه التشابه والتماثل بين العنصر الأسطوري من حيث الأسماء
والأبطال والمواقف والحالات والأحداث، وبين العناصر الأدبية كالأسماء والإيحاءات
الرمزية.
·
الغموض وتعدد الرؤى: ويُقصد به تغليف النص الشعري بهالة من الغموض تناسب
غموض الأسطورة المستعملة في هذا النص.
·
الإشعاع: ويُقصد به الإضاءة على مجمل القصيدة من خلال الزج بالعنصر الأسطوري في
العمل كاملًا، وإرخاء ظلاله على مجمل النص وإظهار الخلفية الأسطورية للقارئ.
·
ومن الأمثلة على الانزياح الأسطوري قول محمود درويش في
قصيدته "تموز والأفعى":
تموز مرّ على خرائبنا
وأيقظ شهوة الأفعى
القمح يحصد مرة أخرى
ويعطش للندى..المرعى
تموز عاد، ليرجم الذكرى
عطشا..و أحجارا من النار
فتساءل المنفيّ:
كيف يطيع زرع يدي
كفا تسمم ماء أباري؟
5.
تحولات البنية الشعرية :
لقد
أدّى لجوء الشعراء إلى الأسطورة والاستقاء من معينها إلى ظهور تحولات نوعية في
بنية القصيدة العربية الحديثة، ومن ذلك العلاقة بين المرسل والمتلقي، والتحول في
اللغة والتحول في الدلالة الشعرية والتحول في النظام الإيقاعي والهندسي للقصيدة
والتحول في الخطاب الشعري، وهذا ما يجعل القصيدة الحداثية لها خصوصية معينة تجعلها
تنحاز للواقع من خلال تفاعلها مع التراث الإنساني؛ فهي وإن أفادت من التراثين
العربي والإسلامي فإنّها تتوسل إلى ذلك من خلال تراث الأمم الأخرى، ومن الأمثلة
على تحولات البنية الشعرية ما قاله درويش في الجدارية:
لاشيء يوجِعني
علي باب القيامةِ .
لا الزمان ولا
العواطف . لا
أحِسٌ بخفٌةِ
الأشياء أو ثِقلِ
الهواجس . لم
أجد أحدا لأسأل :
أين ( أيْني )
الآن ؟ أين مدينة
الموتي ، وأين
أنا ؟ فلا عدم
هنا في اللا هنا
“ في اللازمان ،
ولا وجود
وكأنني قد متٌ
قبل الآن “
6.
تحولات الدلالة
الشعرية :
لقد طرأت تحولات على بنية القصيدة العربية
أدت إلى خلخلة الهيكل الموروث لها، فأصبح لكل قصيدة شكلها الجديد ولا سيّما بعد أن
أفادت من معطيات الحداثة في تغيير طريقة بنائها، وحين تخرج القصيدة عن بنيتها
التقليدية فإنّه ينبغي للدلالة أن تخضع لمنطق التحول والتغيير، وهذا الأمر يتطلب
من المتلقي أن يكون عنده أدوات نقدية لكي يتمكن من فك ما استغلق من الشفرة
الدلالية الجديدة، ومن تحولات الدلالية الشعرية ما قاله محمود درويش في قصيدته
"حجر كنعاني في البحر الميت":
لا بابَ
يَفْتَحُهُ أمامي البَحرُ..
قُلتُ: قَصيدتي
حَجَرٌ يَطيرُ
إلى أبي حَجَلاً. أتَعْلَمُ يا أَبي
ماحَلَّ بي? لا
بابَ يُغْلقُهُ عَلَيَّ الْبحْرُ, لا
مرْآة أكْسِرُها
لِيْنتشرَ الطّريقُ حَصىً.. أَمامِي
أو زَبَدْ....
لقد كان للأسطورة حضور كبير في الشعر
العربي الحديث عند طائفة كبيرة من الشعراء، ومن أبرز الأمثلة على ذلك: قول بدر
شاكر السياب في قصيدته "رسالة من مقبرة" مصورًا المعاناة والخلود في
الألم من خلال استعماله أسطورة سيزيف:
وعند بابي يصرخ
الأشقياء:
اعصرلنا من
مقلتيك الضياء
فإننا مظلمون!
وعند بابي يصرخ
المخبرون:
وعرٌ هو المرقى
إلى الجلجلهْ
والصخر، يا
سيزيف، ما أثقلهْ
سيزيف … إن
الصخرة الآخرون!
تظهر الأسطورة
في قول عبد الوهاب البياتي من قصيدته
"مرثية إلى عائشة" مصورًا حال العراق والفوضى التي حلت به وهبوطه إلى
مراتب متدنية من خلال أسطورة عائشة:
عائشةٌ عادت إلى
بلادها البعيدةْ
قصيدةً فوق
ضريحٍ، حكمةً قديمةْ
قافيةً يتيمةْ
صفصافةً تبكي
على الفراتْ
عاريةَ الأوراقْ
تصنع من دموعها،
حارسةُ الأمواتْ
تاجًا لحبٍ ماتْ
فارتفعتْ سحابةٌ
من الدخانِ ومضى النهارْ
7.
تأثير الأسطورة في الشعر العربي الحديث :
لقد كان للأسطورة في الشعر العربي الحديث أثر
في دفع القصيدة العربية نحو مساحات واسعة
مليئة بالدراما والدلالات الغامضة والإيحاء الدلالي، وقد نقلت الأسطورةُ القصيدةَ
العربية من طور الاستعارة وغيرها إلى توظيف الأسطورة داخل القصيدة توظيفًا فنيًا
يندفع الشاعر إلى استعماله من خلال إعادة تشكيل الأسطورة بما يوافق رؤيته الخاصة.
ولكن إفراط الشعراء في استعمال الأسطورة
ورموزها جعل تفقد أصالتها وتجعل القصيدة مغلقة أمام متلقيها ، فضلا عن بعد
الأسطورة الموظفة أحيانا عن خلفية القارئ النفسية والثقافية مما يحوجها إلى
القواميس المتخصصة فيفقد القصيدة متعتها وسيرورة نجاحها ، ويدفع بالنفور منها .
جماليات
الأسطورة في الشعر العربي الحديث : من الجماليات التي أضفتها الأسطورة وتوظيفها في
القصيدة العربية الحديثة:
·
الغرابة : تضفي الأسطورة على النص شيئًا من الغرابة والغموض، وهذا من أكثر الأمور
جذبًا لقرّاء الشعر الحديث الذين يحبون أن يكون النص الشعري حمال أوجه ذا غموض
بوّاح ليس فيه مباشرة.
·
دمج عدة أزمنة في نص واحد: تسهم الأسطورة في استحضار أكثر من زمن تاريخي واحد في
القصيدة، وذلك من خلال استعمال الرموز التاريخية الأسطورية في أكثر من زمن وعند
أكثر من ثقافة، كأن يستعمل الشاعر أسطورة إغريقية ويسقطها على واقعه العربي البعيد
عن هذه الثقافة.